مضت سنتان.
|

مضت سنتان.

إلى صديقتي، جدًا. مضى وقت طويل، وابتعدت كلتانا عن الزمن الذي عشناه سويًا. والآن، وأنا أُقلّب في جهازي، أدركتُ بأننا لا نملك الكثير من الصور معًا.. وأن تلك الصور في ذاكرتي، قد تتلاشى حتمًا.. صوركِ وأنتِ تضحكين، وأنتِ غاضبة، وأنتِ تبكين، ونحن نبكي معًا، نسكر ونبكي، نركض في شوارع القاهرة حتى وقت متأخر، نركض ونسكر…

الموهبة

أؤمن بأن الموهبة – أية موهبة- ليست ملكًا لصاحبها في الأصل، بل هي نعمة يتحتم على من منحت له أن يقدرها، ويأخذها بجدية، ويستفيد منها بأكبر قدر ممكن.. أجد أناسًا موهوبين للغاية، لكنهم لا يقدرون مواهبهم، يحتقرونها، يهملونها.. يتعاملون معها كما لو كانت شيئًا زائدًا.. قابلت مثلًا أناسًا في الأربعين من عمرهم، يمتلكون مواهب عظيمة،…

|

وتبكي بكاء الساهي عن جنازته..

أعرف هذه النهاياتأعرف خطوهاوأعرف تعب الإنسان حين يُسلّم نفسه للبحر، للمشانق على أغصان الكروم.. وللعمر الطويل.ماذا نفعل الآن بمركب يبحر دون وجهة؟والمنافي التي رافقت إيقاع خطواتنا فوق الدروبوالمدينة المتعبةوآثار الغروب الذي يلمع فوق وجه السارية..كل شيء بدا أكثر وضوحًاوالناي الباكي في قلبيلم يعلُ من قبل نحيبه، كهذا النحيبولم أقل شيئًاإذ لا يوجد أكثر غربةمن رجل وسط البحريحدق…

|

متعبين، تطاردنا أحزاننا مثل سرب خائف..

إلى أريج عبدالله، وإلى أخواتها.. إلى حزنهن، خصيصًا إليه.   لم يُسمّنا أحدٌولم يعرنا أحد أسماء أبنائهومع الوقت، لم نعد نعرف ما هو الترقبحين كانت خطوات الأقدام المتعبةتمضي نحو أبوابها..ولم يحدث أن طرق أب متعب أو ضائع بابنا ولو خطأ..ودربنا ليلنا الطويل-بحزن بالغ- ألا ننتظر أحدًا. دربنا يباس حقولناوالنهارات التي تُشرق وتُعتم دون هدف..وأسماؤنا التي…

|

والبحر فينا، هو الذي كان يبكي.

إلى راسم العوكلي-الذي ولد كبيرًا- إلى الطفل الذي كانه، تحديدًا.. ثمة زرقة كانت في عينيه، توقًا نحو البحر، نحو شيء بعيدوكان سيمضي، كنت أعرف، لأن الحياة كانت تتهدل على كتفيهوكان يجرها..وفي عينيه، كنتُ ألمح دومًا ظل شيخ كبيرومن حين لاخر، كان يهمس:التعب، لم تبق كلمات لوصف هذا التعب.. مرة رأيته ينزه حياتهوبدت متعبة مثل كلب…

“تحت جسر مشاة، أحرق الرسام قلبه/ امرأة زرقاء تزعَق في رأسي”

( إلى الرسام.. والمرأة الزرقاءالتي تزعق في رأسيوطبيب التخدير.. ) أغْلِق البابأَغلِق البابظل امرأة زرقاء يزحف نحوي.. كل ليلة يصير العالم خفاشًا ويجثم على صدري.. صوت صراخيمجرد كابوسصوت صراخي كابوس آخر. أغْلِق الباب قطيع من البشر السعداء يتمايل في الخارج أَحْرِق العالم قطيع من البشر السعداء يضحك في الخارج.. هذا يجعلني حزينًابشر يضحكون بشر يطلقون…

(أن تكون شاعرًا.)

أن تكون شاعرًا؟إنه أمر تتحدث عنه،بالطريقة ذاتها،التي تستخدمها لوصف اضطرابك،وفزعك من خطوط يديكوالخجل الذي يصاحب صوتكحين تعدد مرات انتحارك،وتشكولحشد لا تعرفه،من ذاتك الأخرى،التي تحاول أن تقتلك..أن توسم بالغريبالذي يمشي على ضوء،ويجرحه الهواء البارد حين يمرالذي يحدق في خدوش الجدارويقول:من هنا تخرج القصائد..من مكان في قلبي،يشبه هذا.أن تكون شاعرًا؟جرب،– قبل أن تتباهى بذلك-أن ياتيك الشعرفي مكان…

كما لو أن في الأمر مزحة ما../As if this is some kind of joke…

أطرق باب حياتي وأدخل، كل شيء يبدو معتمًا كما لو أن في الأمر مزحة ما.. موتى كثر يجرون جثثهم داخل رأسي.. موتى كثر يبترون أعضاءهم ويزرعونها ظلالا سوداء في رأسي.. جسدي أزرق.. وأصدقائي يدفونني سرا في الليل ويغلقون الباب وراءهم.. تخيل أن تكون حيًا ويدفنك شخص ما؟ أصدقائي.. يكنسون حياتهم.أنا البقعة السوداء في مراياهم الصافية…..

( خرج للدهليز، وبكى بكاء مرًّا/ الإصحاح السابع والعشرون).

” نفسي حزينة جدًا حتى الموت، ابقوا ههنا، واسهروا معي”- يسوع. خرج للدهليز وبكى بكاء مرًا.. كان الليل حالكًا والقمر غمامة سوداء.لكنه كان يشع حزنًا وكان، لسبب لا يعرفه يشم في الكون رائحة وداعاتٍ كثيرة.. ويرى الصبح ينتحب الآنفي الطريق إلى البلدة. اسهروا معي،قال..  أحس أن الموت يشبه حزنًا عميقا وأعرف أن الجحيم ليس سوى…

وكان صوت حياته القديمة.. يرنّ في ذاكرته.

قال: لا أذكر أي شيء كنته، قبل أن أصير ظلًا. وقف أمام المرآة، عاريًا.. عاريًا تمامًا. مثلما ينبغي لظلٍ أن يكون. أخذ يقلد كل الأشياء.. صار كرسيًا وقال: لا أذكر رائحة الخشب القديم.. لم أكنه. صار مشجبًا وأخذت المعاطف تتدلى من رقبته. صار بابًا، وأخذ يغلق كل حين، دون أسباب واضحة.. صار ستائر لا تمنع…

في الظل، وراء الباب الموارب.

إلى آندري تاركوفسكي. في الظل وراء الباب المواربينكمش طفل معتم.. حدود جسده الباهت تتماهى، مع الليل المسكوب في الأرجاء. ذرات الهواءتتشرب ظلًا عتيقًاوتنتشر حول الجسد الصغير.. الضوء يتساقط كالندىعلى الممرات الطويلة فوق الجسد البارد.. عين خافتةتبرق، من وراء الباب الموارب. عين أخرى في الظلتبدو، كثمرة كرز ذابلة. وطن بعيد يشرد، في العيون المحنيّة..مركب شراعيّيراقب انطفاء…

والعربات في الخارج، جاءت لحمل جثتي.

عندما أموت، أريد أن اصير قاربًا..و أبحر في الزرقة. أريد، -أنا اليباس، المعجون من حزن الأرصفة، وصفعات الأمهات الخشنات، والخطوات الوحيدة-أن أصير غروبًاو أبحر إلى نفسي. الآباء حجزوا قبورنا الرخامية، والأمهات اخترنألوان التوابيت. ورد الجنائز جاهز للقطف.. والعربات في الخارج جاءت لحمل جثتي. خطوات كثيرة وراء الباب الموصد. ولا أحد علّم الجثثكيف تفتح أبواب المشارح..كيف…