سينما مبهجة وصغيرة بالقرب من البحر: حوار مع الشاعر محمود عزت

الشاعر والسيناريست محمود عزت أثناء استلام جوائز لفيلم سعاد في مهرجان فيينا

ثقافة_

آلاء حسانين

منشور الأربعاء 16 فبراير 2022

عزت الذي يكتب أحيانًا قصائد لطيفة/ يعلقها في نادي البلدة/ بينما ترسم حرمه الرقيقة على الزجاج. / عزت الذي أتى من بعيد/ اللطيف الخجول/ الذي يحمرّ وجهه أثناء المديح/ أو اللوم/أو النقاش/ والذي لم تكن له منذ أن جاء إلى البلدة/ أي مشاريع أو إنجازات أخرى/ بخلاف سينماه المبهجة الصغيرة هناك/ مكعبه البنفسجي المضيء/ بالقرب من البحر.

مثل عالم الأطفال المتخيل، يكتب عزت عالمه الذي يحلم بالعيش فيه، ويبدو عالمًا رقيقًا يشبه عوالم الأحلام، يصف نفسه، وحياته، وسينماه، والأفلام التي يحلم بكتابتها، أو العيش فيها. 

فالمقطع الشعري السابق من قصيدة/ سؤال بعنوان ماهو فيلمك القادم يا عزت؟ يجيب عنه الشاعر نفسه بأجوبة حياتية، فنخرج من القصيدة، لنجده كتب سعاد، وأبو صدام، وأول أفلامه: فيلا 69.

بدأ محمود عزت الكتابة باكرًا، لأنه “في يسار رأسي فجوة مفتوحة، منذ أن كنت في الرابعة“، لذلك كتب: تأثرًا بالأغاني والقصائد المدرسية، ولإخفاء فجوات رأسه، ولاحتمال التروس المهمشة داخل رأسه، ولاستيقاظه ذاهلًا على دخان الأحلام. 

كتب عزت لأنه “لم يكن مرئيًا” لكن “سددت الفجوة فوق صدعي بالورق، وأنقذني الشِّعر من الانتحار“.

شجعه والده على الكتابة، وصحبه إلى معارض الكتب وكطفل، فاعتبر نفسه كاتبًا منذ وقت طويل، وتجول بالدفاتر والأقلام، وعمل على ملئها بالكلمات، وبالصور، والسينما. وما يزال يحتفظ بدفاتر طفولته، وذكرياته عن الملائكة، الذين شابوا معه، كما صحب معه أيضًا حرصه على عدم لمس رأسه خطأ، لأن: ثمة ما قد يتحرك بالداخل، من لمسة خاطئة، يفتح عينيه، ويذكرني بما نسيت.

ومثلما نقل عزت دفاتر شعره من طفولة إلى أخرى، نقل معه أيضًا معطفه الأبيض، قافزًا من قصيدة إلى أزقة المشافي، لأن القصائد لا تطعم العائلة، ولا تدفع أجرة التاكسي وإيجار البيت، ولأن الشِّعر ليس مهنة تكتب في بطاقة الهوية، فرغم أن الشعراء في قرارة أنفسهم، يشعرون بأنهم شعراء وحسب، لكنهم يتنقلون من وظيفة إلى أخرى، يخرجون إلى الحياة ويبحثون عن شيء يعملونه بأيديهم، ليجدوا ما يجيبون به عن سؤال: ماذا تعمل؟ لأن الشِّعر يشبه الأحلام، وسيصير مهنة إذا صارت الأحلام كذلك.

لذلك أصبح عزت طبيبًا، ومن وقت لآخر، كان يعرّج على عالم الشِّعر/ الحلم، ويحضر منه بعض القصائد، حتى أمسك ذات يوم معطفه الأبيض، ثم قال له: وداعًا. فالحياة داخل هذا المعطف، بين المرضى، والمعطوبين، والأعضاء المبتورة، والأمل المنتحر، ورؤية الأرواح تفلت “خلفت في روحي كهفًا” مثلما قال، لذلك “فررتُ، لأنام./ لا يوقظني المريض الذي ظن الثرثرة المؤنسة/ سترتق كبده المتهدم/ ولا المريضة التي تطوف بالعنابر/ كمسيح نفدت بركته/ ولا التي كنت أعايرُ لها الضغط فرأيته في عينيها/ ورائي/ يقفُ عاقدًا ذراعيه، في حِلم قديم“.

ترك محمود عزت الطب، على الرغم من أنه كانت لديه هيئة طبيب جيد، مثلما كتب، لكن “لم يكن لديّ بلادة طبيب عظيم“. فاختار عَمَلًا آخر، يقول عزت في إحدى قصائده، بأنه يجيده، وهو: التلصص، فكتب عن الكائنات النظيفة، وأحلى فيلم شفته في حياتي، وشغل كايرو، وزمني وزمن غيري، وأيضًا كتب أخيرًا: قطط الكهوف.

التجول في حقول أخرى

تطل السينما على الشِّعر، أو يطل الشِّعر عليها، باعتبارهما نافذة، وبحرًا، وكليهما موج يلطخ قدم الآخر. ورغم أن السينما أكثر لمعانًا وجماهيرية، وبالإضافة إلى النجاحات المتتالية التي حققها عزت فيها، غير أنه يصر على اختيار الشِّعر. كل مرة، ليتمنى أن يحقق فيه مجده، وهل هناك أعظم أو أجلّ من ذلك؟ 

لذلك كان من المفهوم، بل والبديهي، أن يكتب شاعر أفلامًا، أوليس الشِّعر عوالم وقصصًا وكهوفًا؟ أليس صورًا وأكوانًا، بعضها لم يُخلق بعد؟ لأن للشاعر عينٌ ترى، وقد تكون مهمته أن يُري غيره، وكأني أشعر به يقول: خدوا عيني شوفوا بيها. 

عمل عزت بداية مع المخرجة آيتن أمين، فكتبا في فيلم فيلا 69، بالمشاركة مع محمد الحاج، عن حسين، الذي يعيش متشرنقًا في فيلته، يرفض الخروج إلى العالم، ويرفض أن يدخل العالم إليه، فهو ينتظر الموت ويسخر منه في الآن ذاته، ويستحضر أصدقاء سابقين، ليلعب ويدخن معهم، ويستأنس بذكريات قديمة، يؤثث بها حاضره الذي على وشك أن يذوي. 

ثم عملا معًا أيضًا في فيلم سعاد، وجرب عزت مع المخرجة طريقة جديدة لكتابة السيناريو، أسمياها: السيناريو التفاعلي. يقول في حواره للمنصة “آيتن كانت مهتمة أن يكون السيناريو تفاعليًا، لا نصًا جامدًا مغلقًا، بل يضع فيه الممثلون من تعبيراتهم وأصواتهم، وكنا نجمع كل هذه الارتجالات ونفكر كيف نوظفها في النص الأخير ليكون أكثر حيوية وقربًا من الشخصيات، هذا التفاعل المستمر بيننا وبين الممثلين ترك أثره الأكيد على الشكل النهائي للنص”.

وبهذه الطريقة، حكى فيلم سعاد قصة أختين مراهقتين من إحدى محافظات مصر، تتعرف إحداهما على شاب من الإسكندرية عن طريق الانترنت، وتنهي حياتها من أجله، على الرغم من أنها لم تقابله سابقًا، لتذهب الأخرى في رحلة بحث عنه لفهم ما حدث. 

يجول فيلم سعاد داخل عوالم المراهقين، مقتربًا منهم، ناظرًا إلى العالم من خلال عيونهم، بكل ما فيهم من هشاشة وجرأة وصلابة، من حيرة وعدم ارتكاز، من القفز بتهور وشجاعة، مثل سعاد، للوقوع في هاوية الحب/الموت. 

والحب كما وصفه الشاعر محمود عزت، لا يكون إلا “ألفةً مفاجئة/ وانقباضاً مبهمًا/ في أماكن لا تعي ذاتها“، وقد يكون هذا بالضبط ما شعرت به سعاد، قبل أن تقدم على القفز، لأنها لم تستطع أن تصف ذاك “الانقباض المبهم”.

لكن الشِّعر يصف “بذاكرة مفتوحة/ أقدم مما يمكنني تذكره/ وأدق مما يمكنني إدراكه“.

فعزت الذي يحب الحكي بكافة أساليبه، ونبت في حقل الشِّعر، ومد غصونه إلى حقول فنون أخرى، يختار الشِّعر، إن كان لا بد من الاختيار، باعتباره أرقى فن عرفه البشر، فلو أحب الناس قصائده وعبروا بها عن حياتهم وآلامهم، حقق هو أيضًا إنجازه الأهم. ورغم أن السينما أكثر لمعانًا وجماهيرية، وبالإضافة إلى النجاحات المتتالية التي حققها عزت فيها، غير أنه يصر على اختيار الشِّعر. كل مرة، ليتمنى أن يحقق فيه مجده، وهل هناك أعظم أو أجلّ من ذلك؟ 

يحكي عزت في أفلامه قصصًا شخصية، والشخصي هو ما يمسنا، ويؤثر فينا، حتى لو لم نعشه، فنعده ذاتيًا، حتى لو كان يخص آخرين، لن تتقاطع حيواتنا أبدًا. فيقول عزت بأن جميع الأفلام التي كتبها “شخصية بطريقة ما، وذاتية بأكثر من جهة”.

وآخر تلك الأفلام التي كتبها عزت مع المخرجة نادين خان، هو فيلم أبو صدام. الذي يحكي عن سائق تريلا يرزح وسط الهشاشة، على الرغم من هيئته الضخمة، وقيادته لمركبة ضخمة، التي تُجرح فيما بعد، ومن خلال شقوقها، نتمكن من التلصص على طبقات جروح متعددة، تبدأ من السيارة، ولا تنتهي حتى أعمق درجة في شخصية قائدها. 

رغب محمود عزت ليس فقط أن يحكي الحَكَايا، بل أن يحكيها بشكل مختلف، دون الاهتمام بقضايا بعينها، فالمهم أن يحكي قصصًا بسيطة ومؤثرة، وقد وصلت حكاياته إلى كان، وحدث ذلك بحسب قوله “كنتيجة مصاحبة للعمل، فهذا شيء لم أتوقعه، على الرغم من أن آيتن أخبرتني منذ سنين بما يشبه النبوءة أننا سنذهب إلى كان”.

حتى سقطتَ من جذعي: الملك والكتابة

عن جانبي العملة، كتب عزت، باعتباره ابنًا لأب، وأبًا لإبن. فشرّح الأبوة، بكل تعقيداتها، ونواقصها، ورهبتها، عن مرادفتها للخوف، فهو كأب، يخاف من ابنه، من رأسه المنمنمة ويده الصغيرة، من كفه على جذعه، ومن تنفسه البطيء.. وهو كابن، يعاني من قسوة العيش مع أب بلا نقائص:  

أقسى ما يمكن تحمله في البنوّة/ أن تعيش في بيت واحد مع أب أقرب ما يكون/ لـ روبرت دينيرو ” :/ شجاع شهم قوي نبيل جذّاب مغامر وحنون ومغناطيس بشري../ ستظل طوال عمرك/ تتأمل وجهك الذي يشبهه في المرآة.. /فتكتشف بوضوح القطعة الناقصة/التي لم ترممها جيناته في روحك فطفت على وجهك.. / تحسد الآخرين على أب قابل للكسر/ قابل للتجزئة“.

محمود عزت طفلًا.

فالأبوة بحسب قوله، بئر عميقة، لكنها تخرج دائمًا إلى السطح، ومنها ينبع الكثير من فهمه للعالم، ومن علاقته به، ورغم خوفه، إذ يخشى من: أن یلتف حبلك السريّ/ حول عنقي/ وتطفئ یداك الغافلتان/ نتوءات صوتي/ وتخفف عیناك لون عیني. لكن رغم ذلك، يصف عزت نفسه بأنه: أب بكثير من الفضول. 

ولابنه يكتب: أي بنيّ/ یا من سیعتقد لفترة طویلة/ أنني الله/ أنا خائف منك.

وكابن، لأبيه يكتب في قطط الكهوف

أنا شفت أبويا نبي وشفته المنتظر

لو مال عليا القدر يشيلني ويعدله

واستنى منه بطولة وكرامات أوليا

وفاتني إني فوق وجوده باحمّله

جه وقت منه هربت وكرهت أشبهه

دلوقتي بلمس وشي كل ما حِنّ له

وتصور الأبيات السابقة بالإضافة إلى الفقد الجارح، تلك العلاقة المركبة بين البنوة والأبوة، التي تبدأ بالتمرد عليه ومن ثم الاندماج به: 

ما يعزينيش فيك شيء ولو طال الزمن

غير إن صوتي ووشي ليك يتحولوا

الفن باعتباره أنهارًا متقاطعة

عمل محمود عزت سابقًا في إخراج الأفلام الوثائقية، كما يطمح لإخراج أفلام روائية قصيرة، غير أنه يعتقد بأن كتابة السيناريو ستظل مهنته وحرفته الأهم. وبالنسبة للكتابة، فهو يفضل العمل على أشكال أدبية متنوعة، وألا ينحصر إنجازه في شكل فني واحد، لأنه يرى بأن جميع أنواع الكتابة ترفد بعضها بعضًا، وتصب في بعضها كالأنهار المتقاطعة. 

والأدب بالنسبة له، كان منذ بداية السينما مصدر إلهام، منذ السينما الصامتة، وحتى الآن. فالمهم في الاقتباس عن الأدب للسينما، هو المعالجة السينمائية بشكل يضيف للعمل الأدبي أو يعرضه بشكل مغاير، وبوجهة نظر فنية.

كتب محمود عزت أيضًا حلقات من برنامج أبلة فاهيتا ومسلسل الآنسة فرح، وكلاهما حقق مشاهدات عالية، فمثل هذه الأعمال تحظى بشعبية وجماهيرية عالية مثلما يقول، واستمتع كثيرًا بالعمل عليهما، بما يتطلبانه من أساليب حكي بسيطة ومختلفة عن السينما الفنية والمستقلة، وبكل تأكيد عن الكتابة الأدبية شعرًا ونثرًا. وهو لا يفضل نوعًا أدبيًا أو فنيًا على آخر، لأنه يفضل أن تظل أمامه جميع الطرق مفتوحة، حتى يستطيع أن يعبر عن ذاته بجوانبها المختلفة، ويتواصل مع أكبر عدد ممكن من البشر، فكل هذه الأعمال تشبع فيه ككاتب جانبًا مختلفًا. 


لاقى فيلم أبو صدام من إخراج نادين خان استحسانًا كبيرًا حين عرض في الدورة الأخيرة من مهرجان القاهرة السينمائي، وعن تجربته في هذا العمل يقول عزت “نادين مخرجة استثنائية وفنانة مهمة جدًا، حين حكت لي القصة للمرة الأولى تحمست لها فورًا وعملنا على السيناريو لسنوات حتى وصلنا لشكله الأخير، وحين شاهدت الفيلم أدركت أن نادين مخرجة ذات أسلوب خاص وتعرف كيف تحكي سينمائيًا وبالصورة ما طمحنا معا أن يراه الناس في فيلم كهذا”.

رشحت مصر فيلم سعاد ليكون ممثلًا لها في مسابقة الأوسكار للعام 2021، وهنا سألت عزت عمّا إذا كان يعتبر أنه حقق ما طمح إليه قبل عشر سنوات، ليجيب “أعتقد أنني حققت جزءا مما كنت أطمح إليه. المشكلة أن الطموحات تتبدل كل عدة أعوام كهدف متحرك دائم”.

المنصة

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *