|

أنطونيو باييخو- حبكة العمى والبصيرة.

نُشر في العدد ٤٢ من مجلة المسرح الاماراتية – الاء حسانين

امتلك الكاتب الإسباني أنطونيو بويرو باييخو (2016-2020) حسًا فنيًا منذ طفولته، فكان مولعًا بالرسم والقراءة والموسيقى، وساعدته تلك الفنون والمعارف على تنمية جميع حواسه، فبالرسم استطاع أن يرسم العالم ويلونه كما يريد، وبالموسيقى، استطاع أن ينصت إلى أنغام العالم، ويتفاعل معها، ثم بالقراءة، تمكن من فهم العالم والتعرف عليه، والتفاعل معه دراميًا، ولم يقف عند ذلك فقط، بل بدأ بالكتابة ليعبر من خلال ذلك عن وجهة نظره في العالم، عن خواطره وأمنياته ودراماه التي تخصه.يستعرض باييخو في مسرحياته ظروف الطبقة العاملة في أسبانياويصور محاولاتها التي تبدو بلا جدوى للخروج من أزمات تمر بها. 

وتبدو مسرحياته ذات طابع تشاؤمي، كما تبرز النبرة الساخرة على لسان العديد من شخصياته، فثمة دائما تلك الشخصية المحبطة اليائسة التي تعاني من عجز ما، نتيجة لصدمة مرت بها، وتدور حولها العديد من الشخصيات التي تحاول إصلاحها أو تغييرها أو حل تلك الأزمة لكن بلا طائل. 

في مسرحيته «وصول الآلهة»، التي ترجمها صلاح فضل إلى اللغة العربية (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1977) وظف باييخو«العمى» كوسيلة أداة فنية، فالبطل هنا، خوليو، نعرف أنه فقد بصره عندما يصرح بأنه يعيش في ظلام حالك، فتسأله بيرونكا: «ألا تشعر حتى بالضوء؟» فيجيب: «أنا في ظلام حالك مخملي». وزيادة على مكوثه في ظلام حالك، تعيد بيرونكا التأكيد عليه فتسأله مرة أخرى: «ولا بخيال مفاجئ.. ولو كان عابرًا؟؛ فيجيب: أبدًا».  

وقد أراد باييخو هنا اللعب على ثنائية «الضوء والظلمة» كمقابل للبصر والعمى، فصور غرق البطل في عتمة حالكة بحيث يجعله لا يستشعر النور أو يميزه أو حتى ينتفض لمرور أي خيال عابر، فهو غارق في ظلمة أبدية والأعمى لا يعرف ما الضوء حتى يعرف ما الظلمة. 

وعمى خوليو المفاجئ ليس عضويًا، ولكن أباه، فيليب، يحاول التهرب من سبب فقد ابنه البصر، رغم أنه يعرف السبب حق المعرفة، فيقول بأن سبب إصابة خوليو هو أن معرضه التشكيلي لم يلق النجاح المشهود. وسيؤكد على هذه الفرضية حتى عندما يدخل في مواجهة مع ابنه، فيقارن بين رسمه ورسم خوليو، ففي الوقت الذي يفشل فيه معرض الابن في باريس، يستعد الأب لافتتاح معرضه.

ويرجع إصابة الابن بالعمى بسبب إحساسه بالفشل، وأيضًا إحساسه بالضآلة أمام والده وحياته وإنجازاته ومركزه. والأب، الذي نكتشف بأنه كان جنرالًا مهمًا أثناء الحرب، لا يأخذ مهمة الرسم بجدية، فهو يرسم من قبيل التسلية، أما ابنه فإنه يظن أنه سيغزو العالم برسومه.

ويشتد الصراع بين الأب والابن، فخوليو، الذي أصيب بالعمى نتيجة صدمة نفسية، يغرق في ظلامه الحالك الذي يتجاوز عينيه الماديتين ليغلف روحه وقلبه ودنياه التي يرتع فيها، فكأنما هو يرفض النور ومرادفاته، ويرتاح هناك في ظلمته. فهو بغرقه في هذه الظلمة، يرفض، مثل أوديب، رؤية الواقع.

لكن كيف يبدو واقع خوليو؟

نعرف من خلال نقاشه مع والده أن هذا الأخير هو أحد أكبر أسباب هذه الصدمة التي يمر بها، فكأي ابن، كان خوليو ينظر لوالده باعتباره بطلًا. 

إن أزمة خوليو تكمن في اهتزاز صورة الأب في نفسه، فبعدما كان يظن ابوه  خير قدوة، فهو بمنصبه كجنرال في الحرب منح بلاده نصرًا وأسبغ على الشعب السلام، اكتشف كل ما كان يحسبه زائف، فأول صدماته في والده، تمثلت بعد سفره إلى باريس لإقامة معرضه الفني، وهناك، تعرف على أحد ضحايا حروب أبيه، وهو شاب موسيقي من ” ويزلس” له موهبة كبيرة وصحة عليلة، حكى له هذا الشاب عن أبوه فيليب، الذي كان يقوم بتعذيب الناس في الحرب، بمن فيهم والده، الذي خرج من السجن محطمًا وتزوج وأنجب ابنًا هو هذا الموسيقار، لكن بسبب أنه كان حطامًا، لم يلبث أن مات. 

وعلى الرغم من تهرب الأب فيليب من المحاكمة على أفعاله، غير أن ابنه خوليو ينصب له هذه المحاكمة بينهما، فيلقي عليه بالاتهامات ويسمعه شتى ألوان الشتائم، ويظل كذلك يسائله بقسوة:” ستنكر؟” وبينما فيليب يحاول جاهدًا الدفاع عن نفسه قائلًا لابنه خوليو” دعني أشرح لك” كانالابن يصف أشكال الجثث التي عذبها والده أو قتلها، وكأنه يرغب بذلك بإنزال المزيد من العذاب على روح والده المعذبة. ولا يجد فيليب حجة للفرار من ذلك سوى بقوله:” كنت أؤدي واجبي.” ويحاول أن يشرح لابنه أنه لا يحق له أن يحكم على الناس من خلال ظروف لم يعشها، فالحرب لها ما يبررها، لأنها” تجعلنا مختلفين جدًا”

وبصفتك القارئ، أو المتفرج، لا تستطيع على مدار هذه المسرحية سوى أن تتعاطف مع القاتل والمقتول في آن، لأنها الحرب، هي ما تجعلنا مختلفين. وتأخذنا لسؤال: كيف سنتصرف إذا وضعنا في ظروف مثل التي وضعوا فيها؟

ورغم تعاطفنا مع فيليب وخوليو، إلا أننا في الوقت ذاته لا نستطيع أن نجد مخرجًا للأب من عذابه، ولا نستطيع أيضًا أن نجد مخرجًا للابن من عذابه هو الآخر.

أما فيليب فقد وجد مخرجه في النسيان، ففي نهاية المحاكمة التي ينصبها خوليو لوالده، يقول له فيليب:” انسها يا بني، أنا أصبحت رجلًا آخر.”

لكن خوليو يوضح لوالده بأنه إن كان تمكن من نسيان حربه، وإن كانت حربه قد انتهت بالنسبة إليه، غير أن ” الحرب” لم تنته أبدًا، ثم يبوح لوالده بالسبب الذي جعله يصاب بالعمى، وهو أنه رأى أحد ضحايا والده في هيئة شبح، وقد وقف بجواره وعيناه بدون نور: 

خوليو:« أنت تتذكر هذه الضحية فأنا أراها بجانبك، مغطى بالدماء دائمًا وعيناه بدون نور، فقد فقد بصره بعد عام ومات أعمى، تفصيلات صغيرة، ابنه كشف لي عنها قبل أن اتلقى خطابك بثلاثة أيام، وفي اليوم التالي على تلقيه.. غام بصري ( يبتعد عنه ) أنت الذي أصبتني بالعمى»

وهنا يلقي خوليو بهذه التهمة المروعة على أبيه، فبعدما كان فيليب يتهرب من مسؤوليته في إصابة ابنه بالعمى، وفي الأضرار النفسية التي لحقت به. وحاول إلصاق التهمة بفشل ابنه كرسام وبشكه في ذاته، مستندًا بذلك على كلام طبيبه النفسي، كما حاول أيضًا الهرب من مسؤولية أفعاله في الحرب، عن طريق تجاهلها ونسيانها. يجيء عمى ابنه صارخًا، ليذكره كل حين بأنه السبب في هذه المأساة، مثلما هو السبب في مآسي العديد من الضحايا، الذين ما يزالون يتجرعون مرارتها. وإن كان الأب ما زال يتهرب من ذلك، اضطر خوليو أن يكون واضحا كفاية، ليقولها له بصوت عال: أنت الذي أصبتني بالعمى. 

ولا يستطيع الأب أن يتعامل مع هذه الكراهية الجمة التي يلقيها ابنه على كاهله، فيبدأ برؤية الكراهية والاحتقار في عيون جميع أفراد عائلته، ويجد أن شفاءهم من مآسيهم، ستصير حين لا يكون جزءًا من حياتهم. فبعدما كان يحاول مساعدة خوليو، أدرك بأن من الأفضل أن يتركه ويغادر، لأنه – أي فيليب- ليس فقط جزءًا من المشكلة، بل هو المشكلة بحد ذاتها. إن ابنه يكرهه ويحتقره، إنه يستحق الكراهية والاحتقار، ولا سبيل للفرار من ذلك بعد الآن. لا طريقة لتجنب رؤية أشباح الضحايا تحوم حوله، حتى ولو ان احدًا لا يستطيع أن يصلح ما حدث. فالحرب حدثت، والذي يدخل حربًا، ماذا يتوقع أن يجد فيها؟ 

خوليو يذكر فيليب بعجزه وما ارتكبه من أفعال وجرائم، وفيليب يذكر خوليو بأنه لا سبيل إلى الفرار مما حدث، فأنت في النهاية يا خوليو لست إلا ابنًا لقاتل، حتى لو أن جريمة القتل هذه قد حدثت قبل أن تولد بسنين طويلة. أنت الذي تدفع هذا الثمن، في فقدك بصرك، في تشكك في ذاتك، في عماك، في فشلك في الرسم، في إحساسك الفظيع بالدونية، في عدم القدرة على تجاوز والدك. فما أنت غير نسخة مشوهة منه، نسخة ناقصة، ترسم أسوأ، تتجاوز الحرب وفظائعها بشكل أسوأ منه، بلا عينين، أو بعينين لا نور فيهما. 

وما هذه المأساة إلا حوار طويل بين الابن وأبيه، كلاهما سبب لعذاب الآخر، وكلاهما يسعى لأن يتعذب الآخر أكثر، فهو بانتقامه منه ينتقم من نفسه. 

تقول بيرونكا بعد مغادرة فيليب

بيرونكا: منذ عدة أيام وقد تصارحت معه، لقد فقد كل مرحه، لو كنت ترى للاحظت عليه ذلك.

خوليو: ألاحظ عليه ذلك

بيرونكا: لكنك ما تزال أعمى

خوليو: لم ينته الحوار بيني وبينه

بيرونكا: لا جدوى من مواصلة الحديث معه، ربما تحتاج إلى من يحدثك أنت..

خوليو: من؟

بيرونكا: أنا، لو كنت تسمح لي.

خوليو: بيرونكا، لا فائدة، لقد فقدت حماسي، ربما لن أستعيد بصري، نحن نعيش في انتظار الجحيم، الانفجار الذي لن يتحاشاه أحد، نهاية العصر، آخرون يتخدرون.. أنا أعيش تطاردني أشباحي بدون حاجة إلى هذا، لقد تحولت إلى كوابيس مفزعة.. رفض الرؤية استقالة.. اقتراب من الحلم.. أريد حلمًا عميقًا مثل حلم المهد.. نوم بداخل بطن الأم.. في مائها الدافئ المظلم.. هل تسمعين الموج؟” 

يوضح خوليو هنا بأن عماه هو ببساطة فقدان للحماسة تجاه الواقع، نوع من الارتداد، من فقدان المقاومة، من الانسحاب من العالم. فهو أعمى، ليس لأنه فقط لا يرغب برؤية الواقع، برؤية هذا العالم بقتلته ومقتوليه. بل يرفض أيضًا الوجود فيه. وهنا، يقوم بارتداد مألوف، للعودة إلى حالة الأمان الأولى التي عرفها وألفها، وهي حالته كجنين، فهو يتمنى لو أنه لم يخرج إلى العالم، بكل هذا الصراع الذي يحيط به، يضر من لو عاد لحالته الأولى، جنينًاـ لا يسمع شيئًا سوى نبض قلب أمه، لا يشعر بشيء سوى أمن السباحة في ماء رحمها، والأهم من ذلك كله: أعمى، مغمض العينين، لا يبصر شيئًا؟

تعيده بيرونكا إلى مواجهة مع نفسه، حين تقول له بأننا جميعنا ننحدر من سلالة جلاد ما، غير أنه يقول لها بأن في حالة والده فالأمر مختلف، لأن هؤلاء الأسلاف لم نعرفهم أو نحبهم، مثلما عرف والده وأحبه، لكنها تقول له:

” بيرونكا: لكنك لم تحب أباك إلى درجة العمى!

خوليو: والد صديقنا مات أعمى

بيرونكا: لم تصب بالعمى عندما عرفت ذلك، بل بعده بأربعة أيام، بعد أن تلقيت الخطاب الذي يشير فيه أبوك إلى نجاحه بيوم واحد. 

وهكذا تعيد توجهيه إلى حقيقة أخرى، وهو أن سبب عماه قد لا يكون والده مثلما يحب أن يصرح، بل أنه فعلًا يشكك في نفسه ووجوده إلى درجة أن يكره والده وبحبه في آن، يشعر بالضآلة أمام وجوده، أمام كونه بطل حرب، أو مجرم حرب، غير مهم، المهم أن وجوده له قيمة ما.. على العكس من خوليو الذي لا وجود له إلى حد أن يفشل حتى في معرضه الوحيد في باريس. فحتى هوايته والتي هي الرسم، سرقها من والده أيضًا، إذا كان يحب الفن هكذا، لماذا لم يصبح راقصًا أو موسيقي؟ لكن يرفض خوليو التسليم لهذا التفسير، ويصر على كونه عمي من الرعب والاشمئزاز، وأنها استقت هذا التفسير من مستنقع البرجوازية النفسي. غير أن بيرونكا توجه كشافا إلى عينيه مرة أخرى، وتخبره بأنه لا يختلف كثيرًا عن ذلك، فهو أيضًا ليس سوى برجوازي صغير، مفتون بأبيه، ويريد أن يتفوق عليه دون جدوى.. والرسم هو المساحة الوحيدة التي كان من الممكن أن يتفوق على والده فيها، لكنه فشل فيها أيضًا، فعمي حتى لا يمسك فرشاة ويرسم، وإلا لماذا يصاب بالخدر كلما سأله أحد عن سبب تركه للرسم؟

ولن يشكل فرقًا معرفة سبب عمي خوليو، ما دام العمى لم يصبه وحده، فقد نجح في النهاية بتمرير عماه إلى من يحيطون به، فلم يرفض فقط الخروج من الظلمة إلى النور، بل قام بتجميل الظلمة وإشاعتها مثل العدوى. 

والظلمة هنا هي رفض للواقع، هي صنع واقع بديل، أشبه بالأحلام، وبأرحام الأمهات، وهذا هو الواقع البديل الذي يرغب خوليو بأن يعيش فيه. 

لكن هل يرغب الكاتب باييخو أيضًا بإشاعة الظلمة واليأس من خلال مسرحه؟ الحقيقة هي أنه يأخذنا إلى مساحة من الحلم، الذي يولد في قلب الواقع، ومساحة من الضوء الذي يولد في قلب الظلمة، ومساحة من النور الذي يولد أيضًا في قلب العمى. 

يأخذنا إلى الظلمة ويقول: أبصروا..

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *