أن تولد نصفك في الظل ونصفك في النور

مجتمع

جندر/جنسانية

آلاء حسانين

04/11/2020

1534 كلمة

السعودية

آلاء متصالحةٌ مع جسدها الأنثوي وتحبه، وتحب كونها امرأةً أيضًا. لكن أحيانًا، تشعر بأن روح ذكرٍ تسكن في داخلها وتتلبّس جسدها تدريجيًا وتسيطر عليه، فتعيش عدّة أيامٍ على هذا الحال، ثم تنحسر هذه الروح تدريجيًا وتعود إلى طبيعتها. لكن هل “طبيعتها” الأنوثة أم الذكورة؟ أم أنّها إنسان يتّحد فيه الإثنان بكل بساطة؟

قبل مدّة كنّا نقوم بفحص قطةٍ صغيرةٍ سوداء تبنيتها قبل فترة. في البداية ظننتها ذكرًا وأطلقت عليها اسمًا ذكوريًا، ووقتها لم تكن قد تجاوزت عدة أسابيع من العمر. بعد بضعة أشهر، جاءت إليّ أختي تقول: “قطتك هادي ليس ذكرًا. إنه أنثى”. وشكّل هذا الأمر قلقًا في المنزل لعدّة أيام. ظللت بعدها أناديه بهادي، فهذا اسمه الذي اخترته له منذ أول يوم تبنيته فيه لأنه كان هادئًا جدًا. ثم أصبحنا نحتار في مناداته. جرّب كلّ منّا أن يطلق عليه اسمًا مختلفًا، مرّات نناديه هادية أو هايدي، وحاولت أمي أن تناديه دودي ولم يفلح الأمر. فحدث أن أبقينا اسمه/ا: هادي.

الجندر مفهومٌ اجتماعي، هذا ما توصلت إليه أثناء نشأتي الطويلة، وقد استحوذ هذا التفكير على جزءٍ كبيرٍ من حياتي، بدءًا من التمييز بين الجنسين الذي انتبهت إليه أول مرة عندما كنت في السادسة من عمري، حين نظرت خلسةً من شباك المطبخ لأجد الأولاد الذكور يلعبون في الشارع، بينما كان مستهجنًا – في البلدة النجدية المتشددة التي نشأت فيها – أن تنظر النساء حتى من الشباك. في العامين الأخيرين، بدأت أبحث عن طريق الإنترنت بشكل عشوائي، آملةً أن أُجاب على تساؤلاتي. أوّل مرة فتحت جوجل وكتبت: “ماذا يعني أن تشعر بأنك ذكر وأنثى في الوقت نفسه؟”، صعقت عندما وجدت إجاباتٍ كثيرة. كنت وقتها قد عدت للتو إلى المنزل وجلست بجوار أخي لأحدّثه عما مررت به في يومي. وأثناء حديثنا، انزعجت للغاية من الصيغة المؤنثة التي كان يخاطبني بها، رغم أني لا أنزعج منها عادةً. في تلك اللحظة بالذات كنت أشعر بأني ذكر، بأني أخ أخي وليس أخته. وشعرت برغبةٍ لأن أنهض وأقول له: “ماذا سيكون شعورك لو رغبت بأن أتحوّل إلى ذكر”؟ لكن آثرت الصمت لأني أعرف بأن هذه مشاعرٌ مؤقتةٌ للغاية، وأني متصالحةٌ مع جسدي الأنثوي وأحبه، وأحب كوني امرأةً أيضًا. لكن أحيانًا، أو لنقل معظم الوقت، أشعر بأن روح شخصٍ آخر تسكن في داخلي، روح ذكر، تتلبّس جسدي تدريجيًا وتسيطر عليه، حتى أمتلئ بها وأعيش عدّة أيامٍ على هذا الحال، ثم تنحسر تدريجيًا وأعود إلى طبيعتي. ليست طبيعتي الأنثوية على أيّة حال، بل طبيعة شخصٍ يقف في المنتصف بين الذكورة والأنوثة. فمعظم الوقت لا أشعر بأني ذكر، ولا أشعر كذلك بأني أنثى، ولا أشعر بأني شيءٌ على الإطلاق، حتى أني أسأل نفسي أحيانًا: “ماذا يعني أن يكون المرء ذكرًا أو أنثى؟” لكن تُجاب تساؤلاتي هذه عندما ترجّح إحدى كفتيّ أحيانًا باتجاه هذه الجهة أو تلك.

كتبت كثيرًا على مدار حياتي، بشكلٍ لاواعٍ معظم الوقت، ومعظم ما كتبته كان بصيغة المذكر، دون افتعال. كان الأمر يحدث هكذا وحسب. قرأت تعليقاتٍ كثيرةً من بعض القرّاء والنقّاد عن هذا الأمر، لكن كنت أجد تعليقاتهم هذه تافهة، لأن الشاعر أو الكاتب لا يجب أن يُحصر في جندر ولادته. الكتابة أفقٌ، ونحن نكتب حتى نتحرر من كلّ شيء، نتحرر حتى من أنفسنا ومن ذواتنا ونكتب ما نشاء. كنت أجيب بذلك أحيانًا، فقط حتى أسكتهم، لكن كنت أقوم بإسقاط هذه التساؤلات على حياتي خارج الكتابة. أخذت أقول لنفسي: “إذا كانت الكتابة أفقًا بعيدًا وعوالم أخرى لا تنطبق عليها معايير الحياة الواقعية، فلماذا في حياتي – الواقعية – أتردد كثيرًا قبل أن أضيف تاء التأنيث للإشارة إليّ”؟ عندما أريد أن أكتب مثلًا بأنني شاعرة، أتردد في إضافة هذه التاء. فأكتب شاعرة، ثم أمسح التاء لتكون شاعر، ثم أجد بأن الذكورة الفجّة هذه لا تمثلني أيضًا. فأنا لست شاعرةً بإضافة التاء ولست شاعرًا بإزالتها، فمن أنا؟

هل هناك أصلًا تصرفاتٌ محددةٌ للإناث وللذكور أم أنها مجرّد قوالب مجتمعية؟

رفضت التصنيف. أخذت أقول بأني لا أرتاح بتصنيف نفسي. أشعر بأن التصنيف يعني أن أضع نفسي في صندوقٍ ما، وهذا جلّ ما أكرهه. فأنا أتخيل الحياة كمتجرٍ كبيرٍ والبشر معلباتٍ مصنّفةً وموضوعةً على الأرفف. وبرفضي التصنيف، أيّ تصنيف، سأحافظ على حرّيتي وأبقى خارج هذه الأرفف جميعها. لكن أعود وأسأل نفسي: “هل أرفض التصنيف فقط؟ أم أنني أصلًا لا أعرف كيف أصنّف نفسي؟ لماذا يجب أن نصنّف أنفسنا؟” 

كلّما حاولت أن أضع نفسي في قالب الأنوثة أو الذكورة أشعر بأنّ كليهما يضيقان بي. أنا ذكرٌ وأنثى في الآن ذاته. ما المشكلة في ذلك؟ لماذا يجب أن أكون أحدهما أو أن أميل بنفسي غصبًا نحو جانبٍ منهما؟ أشعر بنفسي في كامل قوّتي وطاقتي عندما يتّحد الذكر والأنثى في داخلي ليشكّلا إنسانًا كاملًا، وليس هذا وحسب، بل أشعر بأنهما واحد. فما توصّلت إليه هو أن الأنوثة والذكورة في الأصل شيءٌ واحد، إنسان قبل أن ينفصل إلى جزأين ويذهب كلٌ منهما في طريق منفصل. الاتحاد بين الأنوثة والذكورة هو ذاتي التي أشعر بها معظم الوقت، وأفضّل بأن أطلق على نفسي كلمة: إنسان. نقطة وانتهى الأمر. وفي هذه الحالة، أكون متوازنةً للغاية، لكن مثل الساعة الرملية تمامًا. عندما يمتلئ أحد جوانب الساعة لينقص الجانب الآخر، أبدأ بالتأرجح، وأستمرّ بذلك طوال الوقت. وقتي في هذا الجانب ينتهي، وسأذهب الآن إلى الجانب الآخر. الأمر معقّدٌ، أليس كذلك؟

أوّل مرةٍ سمعت مصطلح “الخروج من الخزانة”، ظللت أفكر فيه لعدّة أيام، وبدأت أسأل نفسي: “هل أنا داخل الخزانة أم خارجها؟ هل هناك خزانةٌ في حياتي أصلًا”؟ لم أستطع أن أتوصّل إلى جواب، وبدأت أحاول استعادة ذكريات حياتي لأعرف كيف ينظر المحيطون بي إليّ. استعدت أيضًا حادثة قطتي السوداء ونحن نحاول أن نكتشف جنسها، وإذ بي أطلق عبارةً ساخرةً: “في النهاية سنكتشف بأنها ليست ذكرًا ولا أنثى”. حينها ضحكت أمي على هذه العبارة وقالت ساخرة: “مثلك”. وعندما حلّ الصمت، أردَفت قائلة: “طول عمرك محدّش عارف إنت ولد ولا بنت”. حينها قلت حتى لا يبدو الأمر كتهمة: “أنا الاتنين”. فضحكَت بسخريةٍ أيضًا لتقول: “إذن يبدو أنه سيتحتم علينا قتلك، أليست هناك أحاديث تقول اقتلوا المخنّثين؟” ثم ضحكَت بمزاحٍ ولؤمٍ شديدين وخرجَت من الغرفة. عندها سألت نفسي: “ما معنى مخنّث؟ وهل هذا الأمر ينطبق عليّ؟” أنظر إلى جسدي فأجده جسدًا أنثويًا وجميلًا. وعندما أرتدي الفساتين، ألفت الأنظار ويبدأ الكلّ يثني على جمالي. أنا امرأةٌ، وإذا التزمت بهذا الجانب فسأكسب الكثير، وسأتخلص من صراعاتي الداخلية. وبما أني أميل للرجال أحيانًا فيمكن أيضًا أن أحبّ رجلًا وأتزوّجه، ويمكن أن ألتزم بالجانب الآمن وأتجنّب أيّ صراعات، فقد وُلدت بجسدٍ أنثويٍ في النهاية، وليست لديّ مشكلة معه. فلماذا لا أرتاح إذن؟ لماذا لا أمشي على الرصيف وأعيش حياتي بسلامٍ بدلًا من المشي مكشوفةً في وسط الشارع؟ هل يستحق الأمر أن أعترف بما يدور في داخلي؟ أليس من الأفضل أن أظلّ أنكر كلّ شيء، حتى لو كان الأمر واضحًا للغاية، واضحًا للدرجة التي تجعل المحيطين بي يتساءلون كثيرًا عن جندري لمجرد أنني أتصرف أحيانًا كذكر؟ أو لنقُل معظم الوقت؟ هل هناك أصلًا تصرفاتٌ محددةٌ للإناث وللذكور أم أنها مجرّد قوالب مجتمعية؟ كيف عرفت أمي أن هذه الأمور تحدث معي أصلًا؟ لماذا أنا، من بين جميع أخواتي؟ شخصياتنا متقاربةٌ، فجميعنا تقريبًا فتيات مستقلات وقويات لا يستطيع أحدٌ أن يفرض عليهن شيئًا. وجسديًا ولدت أنثى مثلهن، وأثناء نشأتي سمعت الكثير من الإطراءات على جمالي وجمالهنّ. أين القطعة الناقصة إذن؟ ظننت بأن الخروج من الخزانة يعني أن أعترف فقط بأن شيئًا ما يحدث. ماذا لو أنّ الجميع يعرف، حتى عندما أنكر أو أرفض الاعتراف بيني وبين نفسي أو أرفض مناقشة أحد في الأمر؟ أعبّر عن نفسي دائمًا، طوال الوقت، بكل السبل، دون خوفٍ ودون السماح لأحد بأن يُملي عليّ كيف أعبّر عن نفسي وكيف أشير إليها. ولأنني نشأت في بيئةٍ دينيةٍ صحراويةٍ قامعةٍ للغاية، فضّلت أن أفعل كل شيءٍ في العلن وأهاجم الجميع قبل أن يهاجموني. لذلك يخاف أفراد أسرتي في بعض الأحيان من مناقشة أمورٍ تخصّني خوفًا من أن أهاجمهم. وربما لو لم أفرض نفسي منذ صغري لتعرضت للسحق منذ زمن بعيد.

أفضّل ألّا أقوم بتسليم نفسي إلى مجتمعٍ جاهلٍ أو عائلةٍ ستسحب منّي جميع امتيازاتي

خضت العديد من الصراعات مع عائلتي في أمور تخصّ الدين والحجاب والتخصص المهني وغير ذلك، وقد أنهكني ذلك وأنهكهم. أما الآن وقد حصل كلٌّ منّا على ما يريده، أنا حصلت على مساحتي وحريتي، وقد ارتحنا سويًا من الصراع المستمر وأصبحت هناك ضفّةٌ يقف كلّ منا عليها. لا أنازع أحدًا ولا ينازعني أحد. أليس من الأفضل أن يقبل كلّ منّا بهذا السلام ويعيش به؟ كما أن الحديث عن الجندر مع والديّ سيقودني إلى الحديث عن الميول الجنسية، وأعتقد بأن هذا شيءٌ لن يتقبلانه أبدًا، وسيجلب المزيد من الهمّ لهما. ونفسيًا، لم أعد أرغب بالحصول على القبول منهما. فبعد صراعاتٍ كثيرة، أشعر بأنني لم أعد بحاجةٍ إلى أن يتقبلانني. أنا تقبّلت نفسي ولم أعد بحاجةٍ للحصول على القبول من الخارج.

إخوتي يعرفون، ليس بشكل صريح، لكن هناك أشياءٌ تحدث تجعل كلّ شيءٍ واضحًا. الأسلوب الذي اتبعته هو أن أعبّر عن نفسي مثلما أرغب، لكن إن سألني أحد فسأتجنّب النقاش وأخرج من الغرفة أو أغيّر الموضوع. وهكذا، ألعب مع الجميع لعبة القط والفأر بحيث أعبّر عن نفسي وأتجنّب الصراع في الآن ذاته، وهكذا الحياة مستمرّة. أما “الخروج من الخزانة” نهائيًا فهذا يعني أن “أعترف” و”أقرّ لنفسي” أمورًا لن تعدو أكثر من مجرّد تهم. ونظرًا إلى حياتي، حيث اعتدت أن أضع قدمًا داخل الخزانة وقدمًا خارجها، قد تكون هذه المخاوف هي مجرّد تخيّلات، فربما أخرج نهائيًا من الخزانة ولا يحدث شيء، وربما أدخل في صراعات غير منتهية. لكن الآن، أفضّل البقاء حيث أنا، وأركّز على أشياء أهم في حياتي، مثل الاستقلال التام والنجاح في المهنة التي أحب، وهي الإخراج السينمائي، ووقتها سأفضّل أن أعبّر عن همومي ومشاكلي وتساؤلاتي ومخاوفي بهذه الوسيلة. فهذه هي طريقتي، ولطالما كانت.

عبّرت بالشّعر عن نفسي فيما مضى، وعرف الجميع كلّ شيءٍ دون أن أضطر للمواجهة المباشرة. وإن كنت قد حُوسبت أصلًا مرّات عديدة على هذا الشِّعر، لكن كلّ مرةٍ كنت أقول: “هذا مجردّ شعر”. الآن أيضًا سأفضّل ألّا أقوم بتسليم نفسي إلى مجتمعٍ جاهلٍ أو عائلةٍ ستسحب منّي جميع امتيازاتي أو ستعتبرني خيبة أملٍ في أفضل الأحوال. سأعبّر عن نفسي بالطريقة التي أرتاح بها، بكل هذه التناقضات والمخاوف التي لا أعرف أصلًا كيف أعبّر عنها بطريقة أخرى غير الفن. وإذا ساءَلني أحدٌ فسأقول: هذه مجرّد سينما، أو هذا مجرّد شعر. وبهذه الطريقة، سأتجنّب الإعدام المجتمعي الذي لن أنجو منه تمامًا. كما سأتجنّب الموت أو الانتحار. هذا الأسلوب في المراوغة ساعدني على التعايش، فأنا لست مختبئةً تمامًا وأختنق من ذلك. وفي نفس الوقت، لا أخرج فاتحًا/فاتحةً صدري لجموع الجهلاء الذين يمتلكون البنادق.

https://omny.fm/shows/safahat/c33e5c1c-1711-41fa-986e-acc800ea67ce/embed

آلاء حسانين

آلاء حسانين شاعرة مصريّة ولدت في السعودية عام 1996، وتقيم في باريس. أصدرت ديواني الشعر “يخرج مرتجفًا من أعماقه” (2018) و”العهد الجديد كلًيا” (2019) عن منشورات تكوين، ومجموعة قصصية بعنوان “حكايات السأم” (2021) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. درست الأدب الإنجليزي في جامعة القصيم. وتخرّجت من قسم الدراما في المعهد العالي للفنون المسرحية في القاهرة. فائزة بجائزة اليونسكو للشِّعر في باريس عام 2015.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *