التشكيلية هنوف محمد: أرسم لأتفادى الكلام وأتمنى أن تطول العزلة.

المرسم – آلاء حسانين – مجلة اليمامة.

كثر الحديث في الفترة السابقة عن العزلة المفروضة على العالم، وتعددت التجارب في التعاطي مع هذه العزلة، لكن هناك قلة قليلة من الناس لم يعنهم كثيرًا هذا الأمر، ربما لأن هذه العزلة لم تكن طارئة بالنسبة إليهم، فهي مجرد جزء من عزلة أكبر يتعايشون معها. ماذا لو كانت حياتك العادية هي حجر طويل لا تبالي بالخروج منه، بل إن البقاء فيه يجعلك مطمئنًا؟ في حواري مع الفنانة التشكيلية السعودية هنوف محمد التي حققت لوحاتها نجاحًا كبيرًا في الآونة الأخيرة، بدأته بسؤالها عن هذه العزلة الأخيرة، وكيف تقضي أيامها معها.. هنوف التي تعيش في منزل قرب البحر، وتقضي يومها بالتمشية على الشاطئ والرسم لأكثر من ثماني ساعات يوميًا، تقول بأنها كانت ممن شعروا بالراحة خلال العزلة الفائتة، فهذه العزلة لم تكن أقسى عزلة عاشتها على أية حال، لأنها فيما مضى، عاشت في عزلة طويلة وقاسية امتدت لسنوات.. أما هذه العزلة التي تعدها لطيفة؟ فهي تتمنى أن تستمر لوقت أطول.
أما عن علاقتها بالرسم، خاصة في ظل هذه العزلات التي تختلف أسبابها وتتعدد مظاهرها، لكنها تتشابه في الجوهر، فتقول هنوف: الرسم يساعدني على تخطي الحياة بأكملها، فعندما أرسم، أكون خارج الحياة.. أفقد إحساسي بالزمان والمكان والوقت، وربما لهذا السبب أحب الرسم، لأنه ينتشلني من الواقع.
وقد يذكرني هذا بعض الشيء بكلنكسر، بطل هيرمان هسة في روايته: «صيف كلنكسر الأخير»، وهو رسام قلق، مسكون بهواجسه، لا يغادر عزلته إلا نادرًا، ورغم أنه يعشق الحياة، غير أن فكرة الزوال تهيمن عليه: «أشرب نخبك أيتها الأشياء الرائعة في العالم! أنا الأكثر زوالًا، والأكثر إيمانًا، والأكثر حُزنًا، الذي يعاني خشية الموت أكثر منكن جميعًا».
وربما ليس غريبًا أن تجمع العزلة والقلق بين معظم الفنانين، إذ إن الفن يتطلب عزلة تعيد الإنسان إلى نفسه، وتطرح الأسئلة، وتفقأ الجراح، ثم تضمدها.. وهنا قد يقدم الفن نفسه كمحاولة لتسكين القلق، وللإجابة على الأسئلة. وبالحديث عن الأسئلة، فإن التساؤلات المتعلقة بالحياة، وبالموت، والزوال.. قد شكلت هاجسًا كبيرًا للطفلة التي كانتها هنوف، فهي تحكي أنها ذات يوم حين كانت في التاسعة، لم تتمكن من النوم من شدة القلق، حينها ذهبت لوالدتها لتسألها: هل حقًا سيموت الجميع؟ لكن والدتها حاولت إعادتها إلى السرير. غير أنها لم تتمكن من إسكات هذا الهاجس، فذهبت إلى صديقاتها في الصباح التالي وهمست إليهن كمن يهمس بسر خطير: هل تعرفون أن الجميع سيموتون؟ لكنهم تجاهلوا كلامها وعادوا إلى ألعابهم، غير أن هنوف لم تعد للعب معهم منذ ذلك اليوم، فتقول إنها شعرت في ذلك الحين بأنها لم تعد طفلة، ومن يومها وهي تشعر بأنها تحمل ثقل الوجود كله في صدرها.. وتحاول النجاة منه، ومن الحياة، بالرسم، وبالاستماع إلى الموسيقى التي تهدئها وتلهمها كثيرًا.. فهي أيضًا عاشقة للأدب، وتقول إن الفنون تكمل بعضها، فصحيح بأنها فنانة تشكيلية، إلا أنها لا تتخيل حياتها دون الموسيقى أو الأدب.. تكتب هنوف أيضًا من حين لآخر، لكنها تفضل الرسم، وتنحاز إليه، لأنه يجعلها مثلما تقول: تتفادى الكلام. فهي غالبًا ترسم تحت تأثير شعور معين، إذ يستحيل بالنسبة إليها أن ترسم شيئًا لا تستشعره، فالرسم هو عملية تحويل ونقل لهذه المشاعر.. سواء كانت مشاعر عميقة ممتدة لسنوات، أو مشاعر لحظية استمرت فقط لثوانٍ أو دقائق.. وأيًا تكن اللوحة التي ترسمها، فإنها يجب أن تتشكل عوالمها وحالتها في داخلها أولًا.
سألتُ هنوف عن الفنانين الذين تأثرت بهم، فقالت إنها تأثرت كثيرًا بالفنان فان غوخ في طفولتها، فحين بدأت بالقراءة عنه في سن العاشرة تقريبًا، حيث كانت تقرأ بنهم أيضًا، لأن الحياة في ذلك الوقت لم تكن تضم الكثير من الملهيات، لذلك، ربما كانت القراءة أحد أهم الأمور التي شكلت وعي الفنانة هنوف في سن صغير، فتقول هنوف: عندما بدأت أقرأ عن فان غوخ، استغربت كثيرًا أن حياة فنان مثله كانت بالغة السوء، فقد مات فقيرًا ومنتحرًا، بل وكان يترجى الناس ليشتروا لوحاته، فقط حتى يتمكن من إطعام نفسه.. كما كان للشهرة الكبيرة التي حصل عليها بعد موته بسنوات عديدة، مثار استغراب لها في ذلك الحين، لأنه لم يكن مُقدرًا في عصره، وكان أطفال القرية التي يعيش فيها يركضون خلفه ويرمونه بالحجارة، باعتباره مجنونًا خرج للتو من مصح نفسي وقطع أذنه ليقدمها إلى عشيقته، كما أن والدته قامت باتلاف العديد من لوحاته بعد وفاته مباشرة.
ومن العجيب أن تتقاطع قصة فان غوخ مع قصص فنانين كثر، وهذا يجعلنا نتساءل: لماذا يعمل الناس دومًا على الإساءة للفنانين غير التقليديين ومحاربتهم أثناء حياتهم، ثم تقديسهم والإشادة بفنهم بعد مرور زمن طويل على موتهم؟ وهذا يجعلني أتذكر الفنان الفرنسي أوجست رينوار، وهو يعد أحد أكثر الفنانين المؤثرين، غير أنه مما ذكر في سيرته على لسان حفيده المخرج الفرنسي جان رينوار، أن العديد من لوحاته أتلفت وضاعت بعد وفاته على يد عائلته، حتى إن أخت أوجست قامت باستخدام بعض لوحاته في بناء حظيرة للدجاج!
وتجيب الفنانة هنوف عن هذا التساؤل قائلة: ربما لأنه بعد وفاة الفنان تبدأ الأجيال الجديدة برؤية فنه بطريقة مجردة، وبالتالي يكون بإمكانهم تقديره.. غير أنه أثناء حياتهم قد لا يتقبل الناس العديد منهم، لأن معظمهم يكونون سابقين لعصرهم، وخارجين عليه، والناس عمومًا لا تتقبل التغيير والتجديد بسهولة. وهذا حقيقي، فأي منّا قد يتقبل فكرة أن يسكن بجوار شخص يقطع أذنه ويرسلها إلى عشيقته؟
رسمت هنوف حالاتٍ إنسانية عديدة، حيث تُصوِّر معظم لوحاتها مشاعر الإنسان الداخلية، من الشعور بالانعزال، أو الكآبة، والقلق.. وغيرها من المشاعر والحالات الإنسانية التي تمس وتجمع بين البشر جميعًا.
ولهنوف أسلوب مميز يخصها ويعبر عنها، حيث يكمن تمييز لوحاتها حتى لو لم تحمل توقيعها.. وعند سؤال هنوف عن كيفية حصولها على أسلوبها الخاص، أجابت: قد يكون هذا الجواب مضحكًا، لكنني وجدت الأسلوب لأنني لم أبحث عنه.
وتابعت الفنانة هنوف محمد بأنها كانت مشغولة بالرسم فقط، فقد ظلت ترسم لسنوات دون توقف، حتى تشكل أسلوبها، وتقول بأن رسمها ما يزال يتغير كثيرًا، لأنها ما تزال مستمرة باكتشاف رسمها وتطويره. وتعتب هنوف على بعض الفنانين الذين حبسوا أنفسهم في قالب محدد بحجة الأسلوب، وقد منعهم هذا من اكتشاف أساليب أفضل قد يبتكرونها.. كما دعت الفنانين للرسم بحرية وكسر جميع القوالب، لأن أسوأ شيء هو أن يحصر الفنان نفسه في قالب وأسلوب محدد.
وربما لهذا السبب كانت هنوف معجبة كثيرًا ببيكاسو، لأنه كسر جميع القوالب.. فتقول بأنه سواء أعجبت بلوحاته أو لم تفعل، إلا أنك ستتوقف أمامها طويلًا.
عرضت هنوف لوحاتها أول مرة في معرض منفرد في مانشيستر البريطانية عام 2017، تلتها بعد ذلك المشاركة في معرض أكسفورد للفنون 2018، كما عرضت لوحاتها أيضًا في متحف اللوفر في معرض للفن الحديث 2018، وحصلت على جائزة سيدتي للإبداع والتميز.
نالت لوحات هنوف شهرة كبيرة على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، وأصبح البعض يحجز لوحاتها حتى قبل رسمها.. وعند سؤالها عن طموحها القادم في الحياة وفي الفن، أجابت بأنها لا تريد سوى أن ترسم وحسب، فتقول إن عملية الرسم ذاتها تمنحها المردود الروحي الذي تبحث عنه. وتضيف هنوف: قد لا يصدق أحد ذلك، لكنني فعلًا لا أمتلك أي طموحات أخرى غير أن أستمر بالرسم. ماذا يعني أن أصبح من أشهر الفنانين في العالم؟ في النهاية سأعود إلى نقطة البداية وهي العزلة التي عشتها وأعيشها.
فهي ترى بأن الجوائز أمر جيد وجميل، لكنها ليست هدفًا. وبالنسبة للمشاركة المستمرة في المعارض، فترى الفنانة هنوف محمد بأن المعارض الفنية على وشك الاندثار، وتوضح بأن الغرض من المعارض قديمًا هو أن تتم إتاحة اللوحات للجمهور، أما الآن فبإمكان الفنان أن يتواصل مع الجمهور باستمرار وبشكل مباشر، وفي هذه الحالة فإن اللوحة تصل لعدد أكبر من العدد الذي يزور المعارض. لذلك فهي لا تحرص على الاشتراك بكثرة في المعارض، بالإضافة إلى أن بعض المعارض تقوم بفرض قيود كثيرة.
أما عن عملية بيع اللوحات، فتقول هنوف بأنها لا تحب التعلق، وهي ترى بأن كل لوحة أهدتها الحالة النفسية التي تشعر بها، لذلك سيكون من الأجدى التخلص من اللوحات لما تحمله من ذكريات ومشاعر معينة، حتى تتم إتاحة المجال للوحات أخرى ومشاعر جديدة.. وهذا أفضل من الاحتفاظ باللوحات، لأن تكديس كل تلك المشاعر في مكان واحد سيكون بمثابة الثِّقل على صدرها.. كما أنها تسعد أيضًا حن تصبح لوحاتها جزءًا من منازل الآخرين، فكأن اللوحة أصبح لها حياتها الخاصة وبيتها الخاص.

http://www.alyamamahonline.com/ItemDetails.aspx?articleId=3888


Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *