|

توقيع المجني عليه: لأني لا أريد أن أصبح مجرد قصة أخرى

كنت أتهرب من الكتابة عمّا واجهته طوال الفترة السابقة، لأنني سأضطر بذلك إلى مواجهة جميع الأحداث التي ما زلت أحاول استيعاب حدوثها لي. ربما كنت سأجرؤ على الكتابة لو أنني حققت أي نصرٍ من أي نوع، نصر أقدمه إلى عائلتي التي عاشت معي وبسببي لحظات قلق وخوف شديدين، وتقلب كبير ما بين الدعم المطلق وما بين صرخة أمي، بأنه لن ينصرني أحد، بإيعاز واضح لي بأن الصمت وكتمان الالم أفضل، لأنني لن أغير العالم الذي نعيش فيه. والحقيقة أنني لم ولا أرغب بتغيير العالم، ولن أستطيع ولو حرصت، جل ما أردته هو أن أحصل على حقي الشخصي، أن أعيد لنفسي اعتبارها، حتى لا أنظر إلى حياتي بعد عشر سنوات وأشعر بالهزيمة والامتهان.. حتى لا أجر هذه الحادثة معي خلال عمري كله، أنا لم أرغب بأن تكبر هذه الحادثة معي وتعيش حتى أصبح في الثلاثين أو الأربعين أو حتى السبعين. أردت أن أتجاوز ما حدث لكي أتمكن من إكمال حياتي، لأتمكن حتى من النظر إلى وجهي في المرآة دون أن أشعر بالخزي. ورغم أني أعرف بعقلي أنني لا يفترض أن أشعر بهذه المشاعر، لأنني لم أخطئ ولا ذنب لي فيما حدث، لكن الشعور الذي تجلبه حوادث مشابهة لا يمكن التحكم به ولا السيطرة عليه. الخزي مثلا شعرت به لأنني لم أستطع الدفاع عن نفسي، لم يخرج حتى صوتي من حنجرتي، لم أمتلك قدمين أو يدين، كأن الله خلقني عاجزة، خلق أطرافي متجمدة أو مبتورة، وخلق صوتي بلا صوت، بلا رنين، بلا صدى، فراغ كبير مهما فتحت فمي لأصرخ فإنه لا يزداد إلا عمقًا. 

في فبراير ٢٠١٩ تعرضت للاعتداء الجنسي من شخص يدعى محمد هاشم، ورغم أني احتجت إلى وقت طويل للغاية حتى أستوعب أنني أنا، وأقول أنا بكل ما لهذه الكلمة من اعتداد وكبر، احتجت إلى استيعاب أنني تعرضت إلى هذا الموقف المخزي. كنت أجلس مع مجموعة من المعارف في أحد مقاهي وسط البلد، عندما استأذنتهما للصعود إلى دار ميريت التي تبعد خطوات من أجل شراء بعض الكتب. ودار ميريت ذهبت إليها مرات معدودة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، أول مرة قبل هذه الحادثة بأسبوعين تقريبًا حين دعاني أحد الأصدقاء في الوسط لحضور احتفالية بمناسبة مرور عشرين عامًا على إنشاءها، ومعظم من حضروا كنت أعرفهم ويعرفونني بالإسم فقط ولم نتقابل، لأنني لم أكن حريصة على الاختلاط بالوسط الثقافي، وإن كان معظمهم أصدقاء عندي على الفيسبوك.

 لكن لأني كنت أعيش في السعودية فلم يكن الاختلاط بهم واردًا بسبب البعد المكاني، حتى عندما قدمت إلى مصر عام ٢٠١٧ لم أشعر كثيرًا برغبة بالتقرب منهم. 

ذهبت استجابة لدعوة شاعر من الوسط (ي.ز)يفترض أنه كان صديقًا وأحضرت معي أفرادا من عائلتي. كان ذلك في وقت معرض الكتاب، وفضلت حينها الذهاب لمثل هذه الاجتماعات برفقة أقارب أو أصدقاء أثق فيهم لأني لا أعرف ماذا يمكن أن أجد هناك . 

جلسنا لساعات والتقطنا صورًا جماعية ثم خرجنا، وأنا تعودت ألا أحكم على أحد، لا شأن لي إن كان فلانًا يسكر ويحشش دون ورع ولا يهمني إن كان المكان أشبه بوكر لمجموعة من الصعاليك الهاربين من القانون، وإن كنت لم أشعر بالراحة فخرجنا بعد أقل من ساعة على حضورنا.. 

بعد ذلك بأسبوعين تقريبًا ذهبت إلى وسط البلد للقاء بعض الأصدقاء القادمين من خارج البلاد، وافق ذلك اليوم تاريخ ١٠ أو ١١ فبراير من العام ٢٠١٩، واستطعت تحديد التاريخ لأني عدت فيما بعد إلى رسائلي مع أحد الأشخاص الذين كنت أجلس معهم، وحينها كان يخبرني عن موعد طيارتهم، وفي ذاكرتي أن الحادثة وقعت قبل ذلك بيوم أو يومين.

استأذنتهم للذهاب لدقائق من أجل شراء بعض الكتب من الدار، وقد ذهبت إليها سابقا من أجل ذاك الاحتفال، ومرة بعدها من أجل حضور ندوة أقيمت لأحد الشعراء. 

عندما دخلت ذلك اليوم، وكانت الساعة الخامسة عصرًا تقريبًا، وجدت في الدار أحد العاملين فيها، وعندما وقفت معه لأسأله عن الكتب خرج محمد هاشم من مكتبه وبدأ بالترحيب بي، ثم قال لي بنبرة ترحيبية أن أتفضل إلى مكتبه لنتحدث ويسألني عن أحوالي. ولم أتشكك في الأمر، لأني أعرف بأن هذا أسلوبه مع كل من يزور الدار، كما أن الصديق الشاعر والصحفي (ي.ز)الذي دعاني أول مرة لزيارة الدار حكى لي عن معرفته بهاشم التي تجاوزت العشرين عامًا، لذلك لم أحمل في ذاكرتي لهذا الشخص سوى كل خير. 

عندما دخلت إلى مكتبه وجدت إحدى بناته نائمة على الكنبة ( وهي شابة أكبر مني في نهاية العشرينات- أنا مواليد ٩٦، حين وقعت الحادثة عام ٢٠١٩ كان عمري ٢٣ سنة، ولم يكن قد مر عامان على قدومي إلى مصر لأول مرة في ٢٠١٧، لأني وُلدت ونشأت في السعودية وعشت فيها ٢٢ سنة)، جلس محمد هاشم على كرسي مكتبه وأنا جلست على الكرسي المقابل للمكتب، بدأ يشرب جوب حشيش وزجاجة بيرة وفي أقل من دقيقة طلب مني أن نكمل حديثنا في الغرفة المجاورة حتى لا نزعج ابنته النائمة، وقال لي بأنه يجب أن يعرفني على إصدارات الدار. وأنا لم أتشكك بأي شيء، فأنا لا أصدر أحكامًا أخلاقية على الناس ولا يهمني إن كان الشخص يشرب أو يحشش أو حتى يفعل ذلك في وجود ابنته، أعرف بأن لكل إنسان الحق بأن يعيش حياته كما يجب، وأنا لن أحاكم أحدًا. 

ولا أخفي بأنني انزعجت من أن يقوم شخص بشرب الحشيش وابنته نائمة في الغرفة ذاتها، لكن قلت لعلهم معتادون على ذلك..:).

ذهبت للغرفة المجاورة وكانت ملأى بالكراتين ثم وجدت كرسيًا خشبيًا قديًما فجلست عليه أنظر حولي إلى المكان والكتب فيه، حينها دخل محمد هاشم وبيده زجاجتيْ بيرة، مد يده ليقدم واحدة لي لكنّي اعتذرت منه بلطف لأني لا أريد أن أشرب، وإنما جئت هنا من أجل اقتناء بعض الكتب. عندها تجاهل كلامي وفتح زجاجة بيرة وبدأ بشربها، كان يقف في وجه الباب بشكل يسده، لم يكن الباب مغلقًا، وبالتأكيد كنت بطريقة ما أستطيع الخروج، لكن لم تخطر على بالي أي هواجس وقتها، وقلت لنفسي بأنه يستحيل أن يحدث لي أي شيء سيء، هذه الأشياء تحدث للاخرين، أما أنا فمحمية من كل شر. 

في أقل من دقيقة كان محمد هاشم قد باغتني بالهجوم عليّ ووجدته يمسك بصدري وجسدي بدون ورع وبشكل مفاجئ، اقترب مني وبدأ بتقبيل وجهي ثم بدأ يغرق وجهي بلعابه. لم أتحرك من مكاني، تجمدت أطرافي في مكانها، وسرت برودة في جسدي بأكمله، حاولت التحدث لكن صوتي لم يخرج من حنجرتي، في الوقت الذي كنت أشعر فيه بملمس أيدي محمد هاشم تضغط على صدري ثم تدخل تحت التي شيرت، رائحة أنفاسه الملأى بالبيرة أمام وجهي ولعابه على كل مكان من وجهي وفمي، بدأت يده تتحسس أماكن متفرقة من جسدي، حينها قلت كلمة متقطعة استطعت نطقها بصعوبة: ابعد عني. حاولت محاولات ضعيفة في إبعاده، لكن يدي كانت لا تتحرك، أو تتحرك بهزال، كأنها يد ميتة لا روح ولا قوة فيها. سمعني محمد هاشم وأنا أقول له: ابعد عني. فقال لي: استني شوية. ثم عاد لمثل ما كان يقوم به، حينها بدأت أنظر للسقف وأنا أحاول إلهاء نفسي عما يفعله بي، وتدريجيًا انفصلت عن جسدي، شعرت بأن بيني وبين الواقع سنوات كثيرة. 

كل شيء أصبح غائمًا، لم أستطع أن أرى أو أسمع. وعندما لم يكن هذا الانفصال عن جسدي كافيا أغمضت عينيّ، تمنيت حينها لو أفقأهما حتى لا أرى ما يحدث. 

بعد دقائق شعرت به يبتعد عن جسدي، وسمعته يشعل سيجارة. لم يغادر الغرفة ولم يذهب بعيدًا، بل جلس في كرسي أمامي وبدأ يشرب سيجارة ويحدق فيّ. استمر الوضع هكذا لدقائق أو ربما أقل، لكن شعرت بأنها سنوات. عدت للواقع على صوته وهو يقول لي: قوليلي بقى انتي مين! فتحت عيني بشكل تدريجي لكن ظللت صامتة، واحتجت لفترة حتى يعود الدفء إلى جسدي وحتى أشعر بأطرافي مرة أخرى.. سألني مرة أخرى انتي مين قوليلي بقى ها. كل هذا وهو يشرب سيجارة ويحدق في شكلي ووجهي وجسدي وارتباكي. قلت دون أن أنظر إليه: أنا آلاء حسانين، وأنا شاعرة. بدأ يعتدل في جلسته فقلت له: قدمت للاحتفال اخر مرة بدعوة من فلان الفلاني. أردته أن يعرف أني أعرف فلان الفلاني الذي هو صديقه حتى يزداد ارتباكًا. ثم فتحت هاتفي وبحثت عن اسمه على الفيسبوك فظهر لي حسابه، وجهت شاشة هاتفي إليه وأنا أقول له: انت دا؟ وكانت هذه تقريبا أول مرة أنظر في وجهه. كان هدفي من توجيه شاشة هاتفي اليه هو اني أردته أن يرى الاصدقاء المشتركين بيني وبينه، وكانوا تقريبًا ٢٩٠ صديقا. وبالفعل انتبه الى العدد الكبير وقال: بيني وبينك ٢٩٠ واحد.. ثم نهض واقفًا وقال: انتي مين بالزبط. فقلت مرة أخرى: أنا آلاء حسانين، وأنا شاعرة. لكن هذه المرة قلتها بنبرة أعلى. بدأ يقول بارتباك: أنا آسف. وأخذ يعتذر بشدة وبارتباك كبير. وصوت ارتباكه واعتذاره جعلاني أتمكن من الوقوف على قدمي. غادرت المكان ووجدت في وجهي ذاك العامل وخلفي محمد هاشم يتبعني مرتبكا. 

خرجت من الباب ثم تنفست، رغم أني لم أتخلص من الخوف تمامًا. بدأت أركض حتى أنزل الدرج وأخرج من العمارة بأسرع ما يمكن، وعندما نزلت للشارع تنفست لأول مرة. حينما كنت في الأعلى ظننت بأنني سأموت في ذلك المكان ولن يعرف أحد، إذا صرخت مثلا فإن أسهل شيء هو أن يغلق العامل باب الدار ويحسبوني في الداخل، إذا قاومت بأي طريقة ممكنة فإن ردة الفعل ستكون أقوى، ربما إذا صرخت سأُضرب، وإذا حاولت الخروج من الباب المفتوح فربما لن أستطيع الخروج من باب الدار. كان باب الغرفة مفتوحًا، ولمت نفسي كثيرا فيما بعد لأنني لم أنهض وأركض، رغم أني عشت ما عشته وأعرف يقينًا بأن هذا محال، لكن الإنسان قد يكون قاسيًا على نفسه، يظل يطالبها بما يفوق مقدرتها.

خرجت من الدار وذهبت لأكمل جلوسي برفقة الأصدقاء الذين كنت أجلس معهم، حاولت اخفاء مشاعري وتجميد وجهي، جلست وكأن شيئًا لم يحدث. لكن بعد دقائق استأذنت للمغادرة، ولا أعرف كيف عدت للمنزل، كيف حملتني أقدامي إلى السرير. في تلك الفترة كنت قد انتقلت للعيش في الدقي بعدما بدأت بالدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، ولم يكن لديّ أصدقاء. كما أنه كان عليّ التعامل مع القاهرة القاهِرة، وتعاملي اليومي معها كان صادمًا وقاسيًا. بعد هذه الحادثة نمت لأيام وربما لأسابيع، توقفت عن الذهاب إلى محاضراتي في المعهد، كنت أنام وأصحو فأجد بأن الألم في قلبي ما يزال موجودًا. عندما بدأت أموري النفسية تسوء أكثر، قررت أن أخرج حتى لا أتعفن في المنزل. كانت أمي تهاتفني بين حين وآخر فأخبرها بأن كل شيء على ما يرام، بينما كانت حياتي تتداعى تقريبًا. 

بعد تلك الحادثة غرقت في الاكتئاب مجددًا، وبالصدفة جلست مع شخص وأخبرني عن ذهابه إلى طبيبة نفسية، فقررت الذهاب إليها. 

صرفت لي الطبيبة مضادات اكتئاب ومضادات قلق، واستمررت بتناول الأدوية حتى شهر ٨ من العام ٢٠١٩.  لم أذهب لمقابلة الطبيبة مرة أخرى. كنت أستثقل الذهاب لكن استمريت على الأدوية. وفي المرات التي كنت أشعر فيها بأن وضعي النفسي لا يحتمل، كنت أراسل الطبيبة لأحجز موعدًا بأسرع ما يمكن، ثم لا أذهب إليه. 

الحياة مع الأدوية خدرتني، زاد وزني عشرين كيلو.. لكن على الأقل تحسنت نفسيًا. ومع نهاية العام الدراسي عدت إلى منزل عائلتي في التجمع وقررت ألّا أخرج منه أبدًا، قضيت شهور الصيف بأكملها تحت البطانية، أشاهد مسلسل فريندز. وقد أعاد لي هذا المسلسل حيويتي. 

بعد عدة أشهر ظهرت موجة الحديث عن التحرش وحاولت الهرب منها في البداية، لكن كل قصة كنت اقرؤها على السوشيال ميديا كانت تعيد إليّ ما حصل. حتى مرت عليّ أيام أبكي بدون توقف، وكانت تقريبا هذه أول مرة أضطر فيها لمواجهة ما حدث معي في ٢٠١٩، بعدما ظللت أهرب من هذه الحادثة بالنوم ثم بالأدوية. ذات يوم بدأت بتذكر تفاصيل هذه الحادثة الساعة الثانية ليلا، وبعد نوبة بكاء متواصلة كتبت بوست على فيسبوك رويت فيه ما حدث، ثم ذهبت للنوم. 

بعد كتابتي لهذا البوست استيقظت على العديد من الاتصالات، ثم دخلت إلى الفيسبوك لأفاجئ بما حدث. جلست وحدي بين لوحاتي مصدومة، لكن التهم والشتائم التي وجهت إليَّ جعلتني غاضبة للغاية، لكن تمكني أخيرًا من مواجهة ورواية ما حدث منحني قوة لا مثيل لها. لم أكن أبالي بالناس جميعهم، بمن يقف معي ومن يقف ضدي. كل ما كان يهمني هو أن محمد هاشم يعرف أني تمكنت من الحديث أخيرًا ومن فضحه. 

لم يخطر ببالي القيام بأية إجراءات قانونية، لكن وصلني اتصال من صديقة تخبرني بضرورة القيام بذلك حتى لا يحرر ضدي محضر تشهير، أوصلتني بمحامية لا أعرفها تدعى ( مها أبو بكر ) قررت أن تتطوع في القضية. 

في نفس اليوم لم أستطع أن أجلس في المنزل، كان التوتر والقلق يقضيان عليّ، كما أن القصة انتشرت بشكل لم أحسب حسابه وهذا وترني، لكنه أيضًا منحني دافعًا للاستمرار والثبات مهما تطلب الأمر.

قررت أن أذهب لتحرير محضر، وبالصدفة اتصلت بي المحامية فأخبرتها أني في الطريق للقسم لتحرير محضر. حينها سألتني لماذا لم أتصل بها؟ قلت بأني خجلت لأني لا أستطيع طلب المساعدة من الآخرين بسهولة. طلبت مني انتظارها أمام القسم ثم دخلنا لتحرير محضر، فطلبوا منا الحضور في اليوم التالي. ذهبنا في اليوم الذي يليه، وبدأوا بالتحقيق معي بمفردي لمدة استمرت أكثر من عشر ساعات. كان ذلك منهكًا وصعبًا، وخاصة أنهم لم يسمحوا بدخول المحامية وإنما انتظرت في الغرفة المجاورة. في اليوم التالي تم عرضنا على النيابة وبدأوا بالتحقيق معنا لمدة طويلة. أذكر أننا دخلنا عند وكيل النيابة الساعة الحادية عشرة صباحًا ثم خرجنا التاسعة مساء. كان عليّ أن أعيد رواية ما حدث آلاف المرات، وأن أتعامل مع نوبات الهلع التي أعيشها أثناء تذكر ما حدث ثم أتوقف لفترة وأعيد رواية ما حدث مرة أخرى.

خلال تلك الأيام كنت ما أزال مصدومة مما يحدث، كما أن كل شيء حدث دون تخطيط، لذلك لم تسنح لي الفرصة لإخبار عائلتي. كنت في النيابة أفكر بما الذي سأقوله لأمي الآن. إخوتي عرفوا بالخبر من الانترنت، وأعرف أن هذا كان قاسيا عليهم، لكنني فضلت التواصل معهم بعد الانتهاء من الاجراءات حتى لا يأثروا على قراري.

بعد رفع القضية عدت لمنزل أمي، دعمني إخوتي نفسيًّا وعاطفيا، حاولت أمي أن تستمر بدعمها لكن لم تستطع أحيانًا ألا تتوقف عن لومي، أو عن محاولة جعلي أتراجع وأسكت زي كل البنات وخلاص. أتفهم الآن موقفها، وربما كانت على حق. لكن وقتها كنت لا أستطيع تحمل أي لوم من أي نوع.. شعرت أيضًا بالذنب لأني تسببت لهم بهذا القلق والألم، لكن كان عليّ ألا أتراجع تحت أي ظرف، وشكّل ذلك تحديًا.

مرت أشهر طويلة من الانتطار، أرق طويل، كوابيس كثيرة، حياتي كلها كانت متوقفة من أجل معرفة ما الذي سيحدث تاليًا. 

آمنت بالعدالة زمنًا، صممت أذني على سماع قصص كثيرة مشابهة لقصتي، قلت: لن أصبح مجرد قصة أخرى.

خلال أشهر الانتظار هذه كنت أحاول التواصل مع المحامية لمعرفة التطورات، لكنها كانت غير مهتمة بالقضية.. لذلك اضطررت أن أذهب للنيابة من وقت لآخر لمتابعة القضية. خلال تلك المدة تواصلت مع محامي آخر، طلب مني أموال كثيرة فقمت بدفعها له، وكان من المفترض أن يحضر معي جلسة في النيابة، حينها كلمني قبل الجلسة بدقائق وطلب مبلغا آخرًا، وهدد بعدم الحضور، وعندما لم أدفع له لم يحضر. حينها حضرت هذه الجلسة بمفردي ثم بدأت بحضور جميع الجلسات بمفردي. 

كنت أحضر من التجمع لنيابة عابدين من أجل متابعة التطورات، بينما كان مكتب المحامية يبعد شارعا واحدا عن النيابة، وحين كنت اسألها عن التطورات، كانت تخبرني أن أذهب للسؤال بنفسي.

وأحيانا كانت تسوّف وتؤجل وأضطر لسؤالها عدة مرات، وحين أيأس أذهب بمفردي.

خلال تلك الفترة تواصل معي عدد من ضحايا محمد هاشم، منهم من كان مهتما بالحضور من أجل الشهادة والابلاغ، إحداهن أخبرتني أنها التقت به في أحد بارات وسط البلد، وحين واجهته قام بضربها أمام بناتها. كانت مصرة على تقديم بلاغ، حينها قمت بإيصالها بالمحامية، لتغير هذه المرأة رأيها بعد أيام، وكذلك حدث الأمر نفسه مع ضحية أخرى. 

ظللت أتابع في النيابة حتى علمت بأن القضية أحيلت لمحكمة الجنايات، وبدأت أسأل في محكمة عابدين، ولم أعرف بأنني كان يجب أن أسأل في محكمة زينهم. أرسلت للمحامية نسخة من الورق وطلبت منها أن تتابع، ولم أعتمد عليها،  كنت أسأل كثيًرًا في عابدين، لكن لم أعرف بأنني كنت أسأل في المكان الخاطئ.

بعد عدة أسابيع أخبرتني المحامية أن القضية نزلت جلسة يوم ٢٥-٢ وشعرت بالقهر لأنني لم أستطع حضورها، ولم أعرف عن الجلسة سوى بعدها بثلاث أسابيع تقريبًا، لكنها وعدتني بأن تذهب غدًا إلى زينهم لتعرف التطورات. 

في الصباح التالي ذهبت إلى زينهم وسألت عن القضية ولم أعتمد عليها، أخبروني بأن الجلسة التالية يوم ٣١-٣. حينها اتصلت بالمحامية وسألتها إن ذهبت للسؤال في زينهم، فقالت بأنها ذهبت لكن السكيرتير لم يكن موجودًا، حينها أخبرتها بأني ذهبت وسألت والسكرتير موجود والجلسة القادمة يوم ٣١-٣. ارتبكت وقالت لي بأنها سألت في العباسية وليس في زينهم وأن هذا خطأ غير مقصود وبدأت استخدام أسلوبها العاطفي المعتاد في طمأنتني ومحاولة استعادة ثقتي.

لكن حينها تحدثت مع أصدقائي وأخبرتهم بما يحدث وطلبت منهم ترشيح محامين ثقة. تحدثت مع محامي جديد وأخبرته بالوضع، لأفاجأ بعد أيام أنه تحدث مع المحامية وأخبرها بأنني اتصلت به، يومها اتصلت بي المحامية وبدأت بلومي ثم هددتني بترك القضية، كان قد بقي أيام على موعد الجلسة التالية ووجدت صعوبة في البحث عن محامي جديد والغاء التوكيل وعمل توكيل جديد، لذلك لميت الدور على مضض على أمل أن تحضر معي آخر جلسة وتقدم ادعاء بالحق المدني.

طلبت منها تقديم الادعاء وألححت بالأمر، لكن أخبرتني بأن تقديم الدعوى بعد النطق بالحكم وليس قبله. 

يوم النطق بالحكم ذهبت للمحكمة باكرا، حاولت الاتصال بالمحامية لكن هاتفها كان مغلقا، حاولت دخول المحكمة لكن الأمن خارج المحكمة منعني من الدخول، قال يجب أن يدخل المحامي فقط. صدقته دون أن أشعر بأن في الأمر مؤامرة ما، لكن لسانه زل وأخبره بأن شخصًا تحدث معه وترك رقمه عنده وسألني اذا هذا الرقم تبعي فقلت لا. بدأت أحاول الاتصال بالمحامي الاخر اخو المحامية وهو موجود في نفس القضية، وفي القضية أيضا أسماء محامين آخرين لم أعرفهم ولا أرهم ولم يعملوا على القضية لكن المحامية طلبت مني اضافة أسماءهم في التوكيل. 

جلست خارج المحكمة أكلم المحامي وأخبره بما يحدث ولماذا لا يوجد أحد من المحامين وهاتف المحامية مغلق، فقال لي بأن أنتظر في الخارج وسيقوم بإرسال شخص لي، وظللت هكذا، الأمن يمنعني من الدخول والمحامي يطلب مني الانتظار في الخارج. أكثر من ساعة ونصف وأنا أجلس خارج المحكمة أنتظر، حتى قررت الدخول بنفسي. لأعرف بأن الجلسة انتهت والمتهم محمد هاشم حصل على البراءة. 

اتصلت حينها على المحامي لأخبره لماذا هاتف المحامية كان مغلقًا، حينها قال لي بأن هذا شأن لا يخصه وأنني يجب أن أتصل بها لأخبرها. حينها قلت له: مالوش لزوم أخد براءة. وأغلقت الهاتف. بعدها اتصل مرة أخرى وبدأ بشتمي لأني أغلقت الهاتف في وجهه ثم قال لي بنبرة شماتة:” أيوا القضية خلصت القضية خلصت إن كان عاجبك.”

سأقوم بتجاوز وصف وضعي النفسي خلال هذا اليوم، لكن باختصار عندما استيقظت في اليوم التالي تعجبت من أني ما زلت على قيد الحياة.

توقفت عن الرد على الهاتف، لأن الجميع أراد معرفة ما الذي حدث في الجلسة. لكن يومها شعرت بالهزيمة، وبالغدر. ولم أعرف كيف سأتمكن من مواجهة أمي. أردت أن أعود إليها منتصرة، وليس مغدور بي. ومنهزمة، ومكسورة. ذرفت دموعًا كثيرة في ذلك اليوم، ومن شدة الألم في قلبي، رفعت رأسي للسماء وقلت: يا ليتني مت قبل هذا. كنت أعبر الشوارع السريعة ببطء حتى يصدف أن تصدمني سيارة ما، وأموت. لم أكن أرغب بالموت، لكن أردت فقط أن يتوقف الألم الذي أشعر به. شعرت بالحسرة الشديدة، وفي أعصابي شعرت بوجود كهرباء تسري فيها. أخذت أجوب في الشوارع وأتوقف في الزوايا لأتجاوز نوبة الهلع التي أعيشها، وشعرت بالحزن الشديد لأني لم أستطع اخفاء دموعي، فعلت كل شيء لأجل أن أتوقف عن البكاء، ولأجل أن يتوقف الناس عن التحديق بي. أسدلت شعري على وجهي حتى أخفيه عن المارة، لكن كلما كنت أرفع وجهي كنت أجد عيونًا كثيرة تحدق فيّ. لم أعرف إلى أين أذهب، لم أرد أن أهاتف أهلي أو أصدقائي أو أي شخص أعرفه. شعرت أني بلا وجهة، وفِي حياتي كلها لم أشعر بضياع مماثل. إلى أين أذهب؟ دخلت إلى أحد الكافيهات وجلست في زاوية حتى أصبح بمعزل عن الناس. لكن نوبات الهلع المتكررة التي عشتها جعلت عددًا من الجالسين الذين لا أعرفهم يأتون للتحدث معي وتهدئتي. وأظن بأنه لولاهم ولولا ما فعلوه من أجل احتواء هلعي، لتوقف قلبي كمدًا. في تلك اللحظات شعرت بروحي تخرج من مكانها ثم تعود مرة أخرى قبل أن تخرج تمامًا، وظللت أدعو في قلبي بأن تخرج بسرعة بدلًا من هذا العذاب.

بعد ساعات هدأت قليلًا ثم ذهبت للقاء محامي آخر وشرحت له ما حدث، بعدها عدت للمنزل وبمجرد ما عبرتُ من الباب وأغلقته حتى سقطت بجواره. حاولت لساعات متتالية الوقوف على قدميّ مجددًا من أجل أن أمشي تجاه الحمام. لكنّي كنت بلا أقدام، وشعرت كأن أقدامي مبتورة، ولا جدوى من محاولة الاستناد عليها مجددًا. 

لكن من حسن الحظ أن النهار يطلع دومًا، استيقظت في الصباح  وانزعجت عندما وجدت بأن عيني ما تزال ملأى بالدموع. لكن مسحت دموعي، وذهبت لنقابة المحامين وقمت بإلغاء التوكيل لهذه المحامية ومن معها، ثم وكلت محامٍ آخر. 

كان لديّ أمل أن تقدم المحامية ادعاء بالحق المدني، يحفظ لي حقوقي، غير أنها لم تفعل، ولم يعد أمامي من سبيل سوى أن يقوم النائب العام بالطعن على الحكم.

لا أعرف لماذا ما أزال ملأى بالأمل بالرغم من كل هذا الحزن والألم والإحساس بالهزيمة والغدر، لكن تذكرت بأنني ظللت لمدة ٣ أيام قبل أول جلسة التي كان تاريخها ٢٥-٢ وقد وافق هذا اليوم عيد ميلادي. ورغم أني لم أعرف بوجود جلسة وعلمت بعد ٣ أسابيع من انقضائها، إلا إني ظللت أحلم قبلها على مدار ثلاث أيام، بشخص يخبرني بأن لديّ جلسة في المحكمة في يوم عيد ميلادي. 

ومن هذا أستمد إيماني، من يقيني بأن الله لن يتركني وحدي أبدًا، وأن كل ما يحدث، من سوء أو من شر، إنما يحدث لحكمة، وقد يكون ما حدث خير في باطنه، خير لا أعلمه.. وما زلت آمل وأرجو وأتمنى أن يتحقق العدل والخير بطريقة ما. 

أملي الآن هو أن تطعن النيابة العامة على الحكم، وما زلت لم أيأس من أن تتحقق العدالة، ولا أريد أن أستقبل أية رسائل من أصدقائي فحواها أن أتقبل الوضع كما هو عليه، ولن أنكر أني شعرت بالغضب تجاه من أرسلوا لي رسائل مشابهة، ناهيكم عمن وجدوا طريقة لإلقاء اللوم عليّ أو إشعاري بالتقصير، وكأنني الملامة في مسألة اختيار المحامين الذين وكلتهم للدفاع عن حقوقي وتهاونوا في آداء واجباتهم ، ولم يعتذروا عن مهمتهم ليتركوا لي الخيار في البحث عمن يقف إلى جانبي.

أما الحديث عن الأصدقاء الذين فضلوا الصمت رغم علمهم بوقوع هذه الحادثة قبل مدة طويلة من حديثي عنها، فهؤلاء لا أتشرف بأني صافحتهم في يوم من الأيام. 

أحد الأصدقاء مثلًا ( الشاعر والصحفي ي.ز) فضل الصمت رغم علمه بالحادثة بعد وقوعها بأسابيع، ورغم أنه من أدخلني هذا المكان وعرفني على المعتدي محمد هاشم، فضل الصمت بحجة أن ابنته صديقة لابنة المتهم وتنام أحيانًا في منزلهم. أظن بأن هذا ما يطلق عليه :” عذر أقبح من ذنب.”

لكن في النهاية أقول ما قاله الإمام الشافعي:

“جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ

 وَإنْ كانت تُغصّصُنِي بِرِيقِي 

وَمَا شُكْرِي لهَا حمْداً وَلَكِن 

عرفتُ بها عدوّي من صديقي”

بيد أن ما سطرته لا ينال من احترامي لأحكام القضاء، فأنا أؤمن بأهمية الدور الذى يلعبه القاضي في المجتمع لما يقوم به من إرساء دعائم العدل بين الناس .

ونؤمن أيضاً بأن خطأ القاضي لهو أمر وارد الحدوث فهو بشر والكمال لله وحده.

غير أن ذلك لا يغير ما أصابني من الحكم، من أسى وألم وحزن تعجز الكلمات عن وصفه، إذ مثّل جوراً على حقوقي.

ولعلني أستطيع أن أكبح جماح غضبي حتى لا أمس ما تحظى به الأحكام من حجية ولو كانت مؤقتة، فإيماني الراسخ بأن قضاة مصر تُصان بهم الدماء والأعراض والأموال وبدونهم تنتهك وتباح وتنهب، يحفز أملي في قضيتي أن يظل قائماً لعله يجد من يناصرني، ويثأر لمظلمتي.

تم تقديم طلب بالطعن على الحكم لمحكمة الاستئناف السبت ٢٣مايو ٢٠٢١ وتم رفض طلب النقض على الحكم يوم الاثنين ٢٥ مايو، لنقدم طلب جديد للنائب العام مباشرة ويقابل بالرفض أيضًا. وبهذا تنتهي الطرق القانونية للطعن على الحكم ويعتبر الحكم نهائيًا.

تم تقديم شكوى في دار القضاء العالي ضد المستشار م.م رئيس محكمةجنايات القاهرة بسبب تجنيه عليّ في حيثيات الحكم بعد تبرئته للمتهم إذ قال:

“إن المحكمة تنوه إلى أن الشاكية تمارس تأليف القصص وكتابةالشعر ومن مهاراتها الفذة معرفة رائحة احتراق الحشيش المخدر، ومنضمن هواياتها التحدث مع آخرين عبر وسائل التواصل الإجتماعي الفيس بوك متخذة من المقاهي العامة مكاناً لمقابلتهم رصدت لنا في هذه الدعوى قصص روائية شابها التناقض والتعارض والعوار في الدليل من بدايتها حتي نهايتها في ظروف اعتقدت أنه يمكن الترويج لها ساقت الأقدار أن يكون المتهم بمفرده على مسرح تلك الأحداث.”

وقيدت الشكوى في الجنايات وهي الان قيد التحقيق. كما تم تقديم شكوى في نقابة المحامين في المحامية مها أبو بكر بسبب إهمالها في أداء واجبها وغيابها عن جميع جلسات المحكمة لما تسبب من ضياع حقي. وما تزال الشكوى قيد التحقيق.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *