أورست الذي أعرفه
كان من المخطط له أن يشد أورست رحاله برفقة الرجل الذي رباه ورعاه، إلى مسقط رأسه أرجوس، التي أُخرج منها وهو لم يبلغ بعد ثلاث سنوات. وقد أخرجه الملك إيجست بعدما قتل والده الملك إيجا ممنون وأغوى زوجته الملكة كليمنسترا، فهامت به عشقاً، وخانت زوجها أجا ممنون معه، ثم ساعدته على قتله، ولم تكتفِ بذلك، فبعد تولي إيجست الحكم أمر بقتل أورست، ابن الملك أجا ممنون، وأسلمه إلى الحراس ليقتلوه في الغابة، ولم تعترض أمه، أو تسعى لحماية ابنها، بل أسلمته للغدرِ، لكن على عادة أبناء الملوك المغدورين، يشفق أحد من الحراس على الطفل المحكوم عليه بالموت، وبدلاً من قتله، يرميه في الغابة، ليموت على الأغلب، أو ينجو عن طريق الصدفة، أو يتلقفه المارة، تماماً مثلما حدث مع أوديب، والنبي يوسف، وكذلك أورست.
عرف أورست المنفى منذ نعومة كفيه، وهام في البلدان برفقة مربيه، الذي ما فتئ يعلمه ما استطاع من العلوم، وينمي في قلبه الإرادة، والتفكير، حتى امتلأت في قلبه حريته، وخافت منه آلهته، لأن كونه حُراً يعني فقدان سيطرتها عليه.
فأورست ليس عبداً، ولا يخشى شيئاً، فهو يعلم يقيناً أنه يمتلك الإرادة، وحرية الاختيار، وفوق هذا كله، أنه مبرأٌ من الندم.
شد أورست رحاله إلى مدينته أرجوس، أو مثلما أسلفنا، كان مخططاً له أن يصل إليها، فهو لم يعرف عنها شيئاً منذ قتل والده، ونُفي عنها، وغُرّب عن قصره، وحياة الإمارة.
وكان قد سمع عن حال مدينته أرجوس، وما آلت إليه بعد مقتل ملكها أجا ممنون، وتواطئ أهلها مع الملك القاتل، على هذه الجريمة، فقد صمتوا، وأخفضوا أعينهم، ورأوا الملك القاتل إيجست يرتدي رداء الملك المقتول إيجا ممنون، وهو ملطخ بالدم، وتظاهروا بأن شيئاً لم يحدث.
وكان عقابهم أن كبلوا بالندم، ندم فرضته عليهم آلهتهم، وندم فرضوه على أنفسهم، وندم فرضه عليهم الملك إيجست.
فقد ابتدع طقساً للندم، كل عام يجمع أهل المدينة في عيد، هو عيد للموتى، فيخرج الموتى من صخرة عظيمة، ويعترف الجميع بخطاياهم التي اقترفوها في حقهم، من خيانة وغدر وقتل واحتيال، ويصفون أنفسهم بأبشع الكلمات والأوصاف، فهم حثالة الأرض.
ومن بينهم يقف الملك إيجست نادماً على قتله للملك إيجا ممنون، ويؤدي طقساً للندم، وتؤدي معه زوجته الطقس ذاته، ندماً على الخيانة والغدر والقتل.
فلمَ يحمل إيجست جزاء جريمته وحده، إذا كان بإمكانه أن يُحملها لأهل المدينة جميعهم؟ فهم جميعاً شركاء فيها، وهم جميعاً وضعاء، لأنهم قتلة وخونة ومرتشون، وحتى الأطفال شركاء في هذا الندم، فقد أجرموا هم أيضاً، ألم يوجدوا أصلاً، ويكبروا بلا مبالاة، بينما أقاربهم الموتى لا ينعمون بالحياة؟
لم يرد أورست في البدء أن ينتقم لوالده، أو أن يستعيد الحكم، لكنه ابتغى فقط المرور على مدينته، فقد كانت تناديه، إذ كيف سيتمكن من العيش هائماً في الأرض، حتى لو كان محاطاً بالنعيم والجمال، يتمرغ في غربته الحلوة، وهناك بقعة في الأرض يمكن أن ينتمي إليها، أن يتجذر فيها؟ حتى لو كانت هذه البقعة هي الجحيم بذاته، وأرجوس أسوأ من الجحيم، فالناس يتجنبون المرور عليها، ويسلكون طرقاً أبعد وأصعب، من أجل ألّا يدخلوها، فيصابوا بعدوى الندم، فالندم معدٍ، مثل الجرَبِ، أو الطاعون.
والحريّة كذلك معدية، لذلك تبعه الإله جوبيتر أورست في رحلته، وحاول أن يثنيه عن التأثير على أهل المدينة، فالآلهة تتغذى على الندم.
عرف أورست عن مدينته أنها مغمورة بالذباب، فهو عملاق بحجم الندم الذي يشعر به أهل المدينة، ويتضخم كلما تضخم ندمهم، ويتكاثر دون قدرة من أحد على إيقاف تكاثره، أو الحد منه، كما أن ما من أحد يملك القدرة على الحد من ندم سكان أرجوس، وتمرغهم في الذنب، واحتقار الذات، فهم لا يعرفون طعماً للسعادة، أو هناءً للنوم، أو رحمة لأنفسهم، فجميعهم محتقرون لذواتهم ولغيرهم، وجميع ذنوبهم مكشوفة، ومنشورة، حتى ما عاد ترديد الفضائح يثير أحداً.
وقف أورست على أبواب المدينة، وبرفقته مربيه، وطال وقوفه، ومربيه يدور حوله لا يعرف ماذا يبغي؟ هل يستدير عائداً ويكمل هيامه في الأرض؟ أم يدخل إلى أرض الندم، تاركاً روحه الخفيفة في الخارج، وهو موقن بأنه لن يعود كما كان؟ فبدخوله للمدينة، سيودع حتماً ذاته التي لا تعرف الشقاء، أو الحقد، أو الانتقام، أو التمرغ في الذنب، فهو الغريب، العابر، بلا جذور، فخارج مدينته، هو إنسان متحرر من ماضيه، ودمه، لكن بمجرد أن يخطو هذه الخطوة، فإن جذوره وماضيه وتاريخه، سيلدغونه، وستمتزج سمومهم بدمه، فتلوث طهره.
خطا أورست بضع خطوات، وذاهلاً، أخذ يسأل الناس عن عنوان بيته، لكنهم كانوا يهربون منه، وبحزن قال: أأسأل عن بيتي؟ وفكر، إن كان من حقه أن يضيف ياء الملكية، على البيت، والأم، والمدينة، وحتى الأب الميت.
اقترب من تمثال الإله جوبيتر، ورأى الناس يصلون له بخشوع، ويبكون، طلباً للغفران، ولم يتأثر بهم، فهو الشاهد، والمار، والمشاء.
لكن كلما خطا أبعد، وسار إلى عمق المدينة، نما شيء من الارتباط بينه وبين شعبها، والسواد الذي يتلحفون به، وكراهيتهم للحياة. ومع الوقت، تمنى لو يقول لهم: هناك، في بلاد بعيدة، وُجد شيء يدعى الفرح، وعاش بشرٌ مثلكم، بسعادة دون ندم على العيش، أو كراهية للحب، والفرح، والنشوة.
لكن كلما هم بأن يقول لهم: ألا تعلمون بأنكم أحرار؟ أوقفه الإله جوبيتر، فقد خاف من أن تنتقل حريته إليهم، ماذا لو عرف الناس بأنهم أحرار حقاً؟ ماذا سيكون مصير هذه الآلهة؟
أكمل سارتر مسرحيته بأن جعل أورست يختار تحرير شعبه، بأن قتل الملك إيجست وزوجته كلمينيسترا، وحمل عن كاهل المدينة وأهلها ذنباً لم يرتكبوه، رغم أن الناس اجتمعوا حوله يريدون قتله، لأنه أفسد حياتهم ومنحهم حرية لا يرغبون فيها، وأثقلهم باليأس والفراغ وتحطيم القيم التي نشؤوا عليها، والأسوأ أن أعلمهم بأن هذه الآلهة بلا ظل، وما من داعٍ للخوف منها، فلن ترسل صواعق أو تنتقم، لأن لا قدرة لها على ذلك.
وبعدما خطب في أهل المدينة الذين تحول غضبهم إلى ذهول، حمل الذباب حوله وسار به خارج المدينة، ليخلصها من الندم.
ولم يعد مرة أخرى ليرشدهم، فهو لم يبدل ملكاً بملك، وإنما بدل هذه الآلهة بالفراغ، والحريّة، والمسؤولية، والفوضى.. وربما شنق سكان أرجوس أنفسهم بعد رحيل أورست والذباب/ الندم، أو ربما تمرغوا في الفوضى، واستباحوا كل شيء، أو حتى خلقوا آلهة جديدة.. ربما عانوا من القلق المزمن، والكوابيس، والاكتئاب، ووقفوا في طوابير على أبواب عيادات الأطباء النفسيين، أو ربما ابتدعوا هروباً ما إلى الفن، والرقص، واليوجا، وقلة منهم ربما سعدوا بموت هذه الآلهة، وتمكنوا من الاستمتاع بحياتهم، وبعضهم احتفظ بأخلاقيات تربى عليها، وآخرون وجدوا كل شيء قد صار مباحاً.
لكن ماذا لو لم يختر أورست أن يحرر شعبه؟ ماذا لو قفل عائداً إلى هيامه القديم؟ واحتفظ بنزعة الحزن والكآبة التي تغمره، لأنه لا يستطيع أن ينقل حريته هذه إلى الناس؟ ماذا لو رحمهم وتركهم في ضلالهم آمنين؟ ماذا لو اختار أن يحيط نفسه بـ(دوائر آمنة) يشاركهم حريته، وأفكاره، وآراءه، والناس في الخارج يجلدون أنفسهم كل عاشوراء؟
ماذا لو يئس قبل أن يبدأ، فما الذي يستطيع فرد واحد أن يفعله، في مقابل جموع ممن يتمتعون برؤية الندم يسيل من الآخرين؟ فمن غير المهم لدى سكان أرجوس أن يكونوا صالحين، فقد أباحوا لأنفسهم تمرير المحرمات جميعها، ما داموا يؤدون طقس الندم علانية، ويحتقرون أنفسهم، ويرجون من آلهتهم الهداية.
فالذي يجمع بين السكان هو (عقدة الذنب) التي ربوها بحرص، وغزلوها في أفئدة مواليدهم، والكافر عندهم هو من يتحرر من الذنب، ومن الندم.
رأى أورست مرة بينما كان يجول في مدينته، أن رجلاً عرف عنه التقوى كان يغتصب ابنته الصغيرة، ولما انتشرت أخباره وسط سكان (أرجوس)، خرج عليهم هذا الشيخ نادماً، باكياً، راجياً من الإله أن يشفيه من مرضه، فارتاحت ضمائر سكان أرجوس، وأعادوه إلى بيته، دون أن يأخذوا الطفلة إلى مكان آمن، فالرجل قد ندم، وهذا كافٍ لتمرير فعلته.
استبدل سكان (أرجوس) قوانين العقاب والثواب عندهم بشيء واحد: الاعتراف علانية، والشعور بالندم.
أورست الذي أعرفه، وقابلته، لم يختر أن يحرر شعبه، بل عاش مكتئباً لسنوات، ورافقته أحياناً في جلساته مع طبيبه النفسي، وآخر مرة قابلته فيها، قال إنه يبحث عن خيل، أو طائرة، أو فيزا لدولة باردة وبعيدة، فلم يعد يحتمل الذباب الذي يغطي مدينته القاهِرة، ويكدر يومه، ويدخل إلى فمه كلما تثاءب، ولم يعد يحتمل ألا أحد غيره ينزعج من هذا الذباب، فالناس جميعاً قد أحبوا وجوده، وكل واحد يربي في بيته ذبابة، ويدربها على الجري واللعب والامتناع عن العض إن أمكن، لكنه ليس مثلهم، فما يزال يتقزز من الذباب، على الرغم من أن عائلته حاولت مراراً أن تحمله على قبولها، ومحبتها، وتربيتها، ووالده حمل له ذباباً كثيراً ليربيه عندما يكبر، وأخواته امتلأت غرفهن بأعشاش للذباب، وعندما استنكر عليهم ذلك، طُرد لأيام.
أورست الذي أعرفه، لا يريد أن يحرر أرجوس، أو أن يحمل الذباب بعيداً.
أورست الذي أعرفه، يريد أن يهاجر.