وتبكي بكاء الساهي عن جنازته..
أعرف هذه النهايات
أعرف خطوها
وأعرف تعب الإنسان
حين يُسلّم نفسه للبحر، للمشانق على أغصان الكروم.. وللعمر الطويل.
ماذا نفعل الآن بمركب يبحر دون وجهة؟
والمنافي التي رافقت إيقاع خطواتنا فوق الدروب
والمدينة المتعبة
وآثار الغروب
الذي يلمع فوق وجه السارية..
كل شيء بدا أكثر وضوحًا
والناي الباكي في قلبي
لم يعلُ من قبل نحيبه، كهذا النحيب
ولم أقل شيئًا
إذ لا يوجد أكثر غربة
من رجل وسط البحر
يحدق في وجه السارية
والغروب يلمع على وجهه أيضًا.
ولم أقل أكثر مما أردت
أعرف تعب الإنسان
وأعرف تعبي
حين تتركني المنافي أنزف في أزقتها
مثل ديك مذبوح
وحين تهرق الحياة دمي كنبيذ على أعتباها
وحين يبدو لي الماضي أكثر وضوحًا
حيث جدران المنزل الذي ألفته
بدت كجدران الملاجئ
هنا، حيث كنّا ننمو في الظل
وهنا، حيث كنا نسرح مثل جياد في أحزاننا
وهنا، في هذه الزاوية، حيث تتكوم تلك الليالي
التي حاولنا فيها قتل أنفسنا..
أعرف هذه النهايات،
والمدن التي رقصت قديمًا
أمام خيام غربائها
هاهي الآن تهتز بيأس
كلما ناخ غريب حياته عند أبوابها
وتبكي بكاء الساهي عن جنازته..
وأعرف التعب الأشد ضراوة
من تعب المدن القديمة
ومن تعب المنتحرين على أغصان الكروم
ومن تعبي
حين أخفيت فرحي الطفوليّ الخبيث
يوم الجنازة
ولوحت للميت الشائب، ماضيَّ، في تابوته..
ولم يلوح لي..
ولم يسبق أن بدا غاضبًا
أكثر مما كان في تابوته، تلك اللحظة.
أعرف هذا الخوف
وأعرف التعب الأشد ضراوة
حين ألمس برعدة أقدام المنتحرين الباردة
وأقول بأني أعرف تعبًا آخر
تعبًا للأحياء، تعب صامت، تعب دافئ..
حين يفتحون شرفاتهم نهارًا
ويرون البحر قبرًا واسعًا
و أعمدة المعابد صلبانًا للخلاص..
حين يقفون مرارًا على الحواف
ويمر ظل الغيوم على وجوههم.. ولا يقفزون.
أعرف هذه النهايات
وأعرف أي حزن تبعثه فينا الجنائز
حين تنصب لنا الحياة كل يوم شباكها
فيبكينا الدفء..
فيما نتمنى أن نتلفع بالبرد، أيضًا
مثل كل المنتحرين على الكروم..
20/مارس/2017