بحثًا عن منزل ما
أحاول ألا أفكر بأشياء تدعو إلى الكآبة
بالأيام الماضية التي لم أغادر خلالها المنزل
بالإحباط المفاجئ الذي يرافق نهاية الحفلات
العشر محطات القادمة
التي قد تحملني إلى منزل ما
جميع أحلامي الأخيرة تدور في منزل طفولتي
وأحاول ألا أفكر بالسبب وراء ذلك
فالمنزل تحول إلى صالة عزاء
وكل يوم أحلم بشخص يموت فيه
لم يعد لهذا المنزل وجود سوى في أحلامي
غادرناه واحدًا واحدًا مثل طيور تفر من حريق ما
وغادره والداي أيضًا إلى طرق غير متقاطعة
بقي والدي وحده في منفاه
سكن غرفة صغيرة ومفروشة
وأخذ يتقلب في الكوابيس
يقول بأنه لم ينم منذ ثلاثين عامًا
ويريد العودة إلى وطنه
لينام بأمان في المنزل
لا يجرؤ والدي على قولها صراحة
لكنه يعلم أن ما منزل هناك بانتظاره
وأن ثلاثين نهارًا في المنفى
لم تكن كافية لإنشاء منزل
فالغربة التي يعيشها متأصلة في رئتيه
وقد انتقل مرضه إلى أجهزتنا التنفسية
حتى صار التنفس جارحًا
وتحولنا إلى عائلة تسعل كثيرًا
أضاع والدي حياته عند زقاق ما
وجعلنا ندور معه بحثًا عنها
قال بأن معنى حياتنا يتمثل في العودة ذات يوم
إلى منزل لم نولد أصلًا فيه
مشيت خلف خطواته بادئ الأمر
بحثت أولًا في الأمكنة التي بحث فيها
أردت منزلًا للعائلة
يوقف هجراتها المستمرة
حكى لي والدي عن أبيه
الذي ولد كل ابن من أبنائه في مدينة مختلفة
وكذلك فعل والدي
أسقطنا جميعًا في صحراء بعيدة
ولم يعرف وهو يفر من عائلته قبل ثلاثين عامًا
أنه الشقي الذي حمل لعنة السلالة
سألت والدي:
لماذا نمسح الأرض بأقدامنا
ونتيه هذا التيه؟
أدركت ذلك وأنا أعد المنازل التي تنقلت فيها
فقد عشت في أحد عشر منزلًا حتى الآن
ثم أقسمت ذات يوم بأنني لن أبحث عن منزل بعد اليوم
سأذهب إلى بلاد بعيدة وأنجو من العائلة
ردد والدي كثيرًا بأنه سيموت في منفاه
وأنه يعلم يقينًا بأنه لن يعود إلى بلده
حكى باكيًا بأنه فر من منزله غاضبًا ذات يوم
رفع رأسه للسماء ودعى بأن يعيش غريبًا
وأن ويموت كذلك
ونتيجة هذا تشرد لثلاثين عامًا
لم يتمكن خلالها من العودة إلى بلده مرة أخرى
أو من رؤية إخوته قبل أن يموتوا
حتى أن الأحفاد باعوا المنزل الذي تربى فيه
وما يزال يتخيل كل يوم بأنه سيعود ليجد عائلته حية وكبيرة
لا يريد أن يفكر بأنهم ماتوا
وأن المنزل لم يعد موجودًا
وأنه يختار أن يتمسك بوهم كهذا
لأنه لا يملك غيره
لا يستطيع أن يواجه أنه عاش وحيدًا
وأغلب الظن أنه سيموت كذلك
وأن حياته دارت في حلقة مفرغة
حلم وحيد أراده وحال كل شيء دون تحقيقه
وكلنا كبرنا نحمل الحلم نفسه
عرفنا أن التخلي عنه هو خيانة لجذر ما
ووفاء لألم الأجداد المتوارث
علينا أن نظل نحلم بالمنزل الدافئ
الذي يعود إليه الأولاد في إجازاتهم
بأم سعيدة
وأب غير مصاب بالأورام
وأنا حدقت في هذه اللعنة
وحاولت فصل نفسي تدريجيًا
قلت بأنني يجب أن أقفز خارج هذه الدائرة
أن أتخلص من لعنة أجداد لم أعرفهم
أن أبدل دمي إذا لزم الأمر
أن أغير اسمي
ولون شعري
ولكنتي في الكلام
بحثت طويلًا عن منزل أعود إليه
عن أعياد للمرح وليست للشجار
عن أب لا يدور في التيه
وأم لم تجمدها التعاسة
كنت أنام كثيرًا في حفلات منازل أصدقائي
مثلت لي أجواء الفرح سريرًا آمنا أغفو فيه
ثم حاولت صنع منزلي الخاص
جلست قبالة وحدتي حتى لم أعد أفكر بالفرار منها
أحدنا قد تمكن من أكل الآخر
ثم بدأت بصنع حفلاتي الخاصة
ودعوة الكثير من الناس طوال الوقت
حلمت بمنزل سعيد وقلت بأني سأصنع واحدًا
لكن بعد مدة لم تعد فكرة المنزل تعني لي شيئًا
قلت ذات مرة لرجل أواعده بأني لا أحتاج إلى منزل
فالغيوم والطيور ليست لديهما فكرة المنزل هذه
وأنا أشبه بغيمة في نهاية المطاف
لم أعرف أني أكذب حين قلت ذلك
المشكلة أني لا أستطيع أن أكشف كذبي الخاص
تباهيت أمام نفسي بأني استطعت القفز خارج كارما الأجداد
وأني سأتنقل في بلاد الله مثلما يتنقل طائر
لكن نسيت بأن الله لم يخلقني طائرًا
وأني مجرد إنسان يريد في النهاية أن يعود إلى منزل ما
ركبت السيارة إلى مطار القاهرة وكنت غاضبة جدًا
إلى حد أنني لم أرغب بالحديث إلى أمي
غزا تقزز شديد جلدي كله
وأردت فقط أن أغادر سريعًا
أن أغادر قبل أن أختنق أو أغص
أردت أن أبتعد عن أمي
عن ألم زعمت بأنه لها وليس لي
عن المنزل الذي تحلق في سمائه لعنات كثيرة
إخوة طيبون وعالقون في دوائرهم
قلت لن يخرجوا منها
وأنا لا أحتاج سوى أن أفر بعيدًا
لكن اليوم وأنا أحاول التعامل مع فكرة أنني لن أعود حتى سنوات طويلة
وأنا أقلب جواز سفري الذي يجب قريبًا أن أنسى أمره
وأنا أفكر غاضبة بالاسم الجديد الذي أود أن أختاره لنفسي
أدركت شيئًا وكان مثل سهم مشتعل ينغرس في قلبي
مثل نور التمع على سيف بارد فوق رقبتي
أدركت أن والدي فر مثلي غاضبًا ذات يوم
وبفراره انتقلت اللعنة من جيل إلى آخر
أدركت وإحساس بالخديعة غمر جسدي كله
أنني بطريقة ما أقوم بالشيء نفسه.
٥ ديسمبر ٢٠٢٢
القصيدة لي تخليك تعيط ولادتك وطفولتك وتنقلاتك وغربتك منفاك ووحدتك، كل شي كان مفصل.
في بشر محتومة عليهم الغربة، الله المستعان.