ثلاث شاعرات وتجاربهن: الجسد موقعًا للوجود والصراع والقصيدة
24/10/2022
2236 كلمة
يُقال إنّ الخليفة عمر بن الخطاب خرج مرّةً يحرس، فمرّ على بيت امرأةٍ وسمعها تقول:
تطاولَ هذا الليل واسودَّ جانبُه
وليس إلى جنبي خليلٌ ألاعبُه
وتالله لولا خشية الله وحده
لزُعْزِع من هذا السرير جوانبُه.1
سأل عمر عن المرأة فأخبروه أنّ زوجها غائب، فأجرى عليها النفقة، وكتب أن يُرجِعوا زوجها، وأمر ألّا يغيب الغزاة عن نسائهم أكثر من ستة أشهر.
في تلك الأبيات، تشتكي المرأةُ حاجتها إلى عشيقٍ تلاعبه، إذا طال الليل واسودَّ، وتصِف رغبتها في زعزعة جوانب سريرها كنايةً عن ممارسة الجنس، ولا يمنعها عن ذلك سوى خوفها من الله.
لم تمتنع المرأة في أي عصرٍ عن استخدام الشعر للتعبير عن وقوعها في الحبّ، أو هجر الحبيب، وحتّى عن رغباتها الجنسيّة. فقد كتبَت الشاعرة السوريّة سنيّة صالح المولودة عام 1935 في قصيدةٍ بعنوان “الطوفان“:
إنّكَ من الزرنيخ يا سيّدي،
أفتح فمي كلَّ صباحٍ وأبتلعُ جزءًا منك
ولم تنتهِ.
قلت سيأتي يومٌ أتوحّشُ فيه
وأفترسُكَ
ثم أستريح.
وكتبَت الشاعرةُ المصريّة إيمان مرسال في قصيدةٍ بعنوان “طيران” (1997):
أجلسُ أمام المرآة، في تدريبٍ شاقٍ
لإزالة الرائحة التي تركَتها شفتانِ على عنقي.
وأيضًا في القصيدة ذاتها قالت مرسال:
كنتُ عاريةً تحت رذاذٍ خفيفٍ
لم أجدْكَ
واستيقظتُ في سريرٍ آخر
لأصدّق أنّ هناك دائمًا
ما هو أكثر من الصواب
وأتأمّل جِلدي
حيث لا شيءَ يلتصق به
فقط أزداد نُحولًا
كأنّني أُجهّز نفسي لطيرانٍ ذاتي.
أما الشاعرةُ السعودية أبرار سعيد، فخطّت نصًا شِعريًا بعنوان “امرأة عارية” قالَت فيه:
تكره والدتي أن ينكشف جلدي
الذي أطعمتُه غضًّا
للزوج الذي من أول وهلةٍ وجدتُه في السرير
للخيوط التي شدَّت فرجي بعدَ
الصراخ والأطفال.
تكره أن أتمشّى بثديَين طليقَين تحت القميص،
وأن تتصوّر يدايَ تمتدّان إليهما وعلوّهما في عناد العفّة
وأنّي ملكٌ لنفسي وحدها.
لديها قناعةٌ بأنّ كلّ امرأةٍ عارية،
والأزواج
أثوابٌ متهجدّةٌ في الصلوات،
أمّا
الله
فإن وُجدَ بين شفتَين
فلن يدنسا.2
*************************
الجسد/السجن
كنتُ أقرأ باستمرارٍ عن علاقتنا بأجسادنا كنساء، وتعقيدات هذه العلاقة وتطوّرها، لكنّي لا أذكر أنّي فكرتُ من قبل في علاقتي بجسدي أنا على نحوٍ واعٍ. فجأةً في أثناء عملي على هذه المادة، سألتُ نفسي بجدّيةٍ عن هذا الجسد الذي نشأ وكبر معي، وكبرتُ معه، وبه، ومن خلاله.
لطالما كنتُ مهمومةً أكثر باكتشاف العالمَين الخارجي والداخلي، غير أنّي لم أتوقّف كثيرًا لأنظر إلى هذا الجسد الذي عاملتُه دومًا كمركبةٍ تنقلني بين العوالم. تعاملتُ مع نفسي دومًا باعتبارها جزءًا من المُطلق، من هذا الفضاء الشاسع، بينما مثَّل لي الجسدُ عائقًا يمنعني من الاتحاد بالكون. كرهتُ جسدي مرّاتٍ لأنّي وجدتُه يعيقني عن التحرّر، عن أنّ أصبح موجةً وغيمةً وهواء. أردتُ لسنواتٍ أن أطير بعيدًا عن عالمٍ ظننتُه سجنًا، لكنّ جسدي كان سجّاني.
لم تكن مشكلتي مع جسدي أنّه جسدٌ أنثوي، بل ما يفرضه عليّ العالمُ لامتلاكي ذلك الجسد
تطوّرَت علاقتي مع جسدي بتطوّر علاقتي مع العالم. مثلًا، في فترة اكتئاب المراهقة، والشعور بالانعزال والرغبة في الفرار من العالم ومن الأبوة المُطلَقة التي تُمعِن في سجننا، أسقطتُ على جسدي كراهيتي لوَضعي وظروفي. كرهتُ جسدي في تصرّفٍ لاواعٍ لمراهقةٍ وجدَت نفسها تُحبَس ويُفرض عليها الحجاب بسبب جسدها، ويُحدّد لها دورٌ اجتماعي صارمٌ وتُقلّص أحلامها وطموحاتها الإنسانية بسببه أيضًا. نتيجةً لذلك، عشتُ زمنًا لم أعتبر نفسي فيه بنتًا، ولم أرغب في أن أصبح ولدًا. كنتُ أقول للجميع إنّي لستُ أيًا منهما. أنا كائنٌ غير محدّد الجنس، أنا إنسانٌ وحسب.
كان ذلك جلّ ما أردتُ؛ أن أصير إنسانًا فقط. لم تكن مشكلتي مع جسدي أنّه جسدٌ أنثوي، بل ما يفرضه عليّ العالمُ لامتلاكي ذلك الجسد: بدءًا بالنظرة المُلتهِمة، مرورًا بالتهديد الأبدي بالانتهاك، وحتى تحويله إلى حقل تجارب وحروبٍ تولّدها الأبويّة وتفرضها. وجدتُ نفسي فجأةً مُنتهكةً ومحبوسة، أُحاسَب على كلّ خطوةٍ أخطوها. فرغبتي في الخروج من البيت لا تُفهَم كرغبة أخي في الخروج مثلًا. وكذلك رغبتي في السهر والسفر والعيش العادي، وتجريب الحياة بكلّ رتابتها وفوراتها. تأتي رغباتي الإنسانية محفوفةً إمّا بالتعهير3 أو بالتخويف.
كان لزامًا أن أُمنع من الحياة بحجّة الخوف من الأخطار الخارجية، أو بذريعة وجوب “حُكم المرأة” ومراقبتها لأنّها ستصبح عاهرةً إذا ما غفلَت عنها المنظومة.
*************************
الارتداد المعاكس
كنت طفلةً عندما وجدتُ نفسي فجأةً وسط مجتمعٍ يحاسبُني ويحدّ من حرّيتي لمجرّد امتلاكي جسدًا أنثويًا. ولكَي أنجو بنفسي، صرتُ أهرب من تلك الحقيقة وأحاول أن أصير شيئًا آخر. اليوم، عندما أعود إلى القصائد التي نظمتُها قبل سنّ العشرين، أجد أنّي أحلتُ جسدي فيها شبحًا أو كيانًا هلاميًا له حرّية أن يهرب، ويتحوّل، ويتشكّل، ويصير كلّ الشخوص والأشياء التي يرغب:
أريدُ أن أصير طريقًا
وعتبةً قديمة
وغرابًا أسود.
وفي دلالةٍ إلى نفسي، كنتُ أشير إلى الأطياف والطيور والأنهار:
وأنا
أريد أن أصير ضياءً
وبحيراتٍ زرقاء
وصوت خطواتٍ قديمة.
أقتل الجسد في القصيدة – بدلًا من قتل الأب – فتصير النفسُ حرّة؛ إنّه فعلٌ يرمز للتمرّد والثورة على المنظومة. وبدلًا من الانتفاض على الخارج، قمتُ بالارتداد المعاكِس نحو الداخل حتى نسيتُ أحيانًا أنّ لي جسدًا. وانسحبَ رفضي لهذا الجسد على رفضي وجودي بكامله:
جسدي يصير تابوتًا
وأنا
طفلٌ صغير
يشعر بالوحدة في الداخل.
إذا كان الوجود يتمثّل في هذا الجسد، فلا أريد أن أوجد. تمثّل انعدام رغبتي في الوجود في قتل جسدي ودفنه وعزله عن الأنا أو النفس. فالجسدُ ليس أنا، هو منفصلٌ عني، أقتله وأدفنه وأكمل طريقي:
ربّما عليّ أن أودّعكم الآن
كي أصير حفّارًا
وأدفن جثتي.
عشتُ من دون الانتباه إلى الجسد زمنًا طويلًا، عشتُ هائمة، أمشي من دون أن أشعر بأنّ قدمَيّ تدوسان الأرض. ألمس الأشياء، الأحجار والأوراق، فلا أشعر بها حقًا. أظنّ أنّي عشتُ في داخل عقلي أكثر ممّا عشتُ في داخل جسدي، إلى أن بدأتُ بممارسة تمارين تساعد على التجذّر، وأهمّها محاولة البقاء في ما يُسمّى الـ”هُنا والآن”. شرعتُ أمشي من دون حذاءٍ على التراب، أحاول أن أشعر بملمسه تحت قدمَيْ. ألمس أوراق الشجر وأحاول الشعور بها. أتأمّل ألوانها المختلفة وأحاول تمييزها بعضها عن بعض. كلّما سرح عقلي بعيدًا حاولتُ إعادته إلى الحاضر عبر تعداد ألوان السيّارات المارّة أمامي، أو ملاحظة الأثاث، أو التركيز على ما أستطيع أن أراه وألمسه حولي. عملتُ على الانتماء إلى الجسد الملموس، وأوّل ما فعلتُ كان النظر إليه، وتأمّله والتعرّف إليه. أدركتُ أنّي لم أكن أنظر إلى جسدي أو ألمسه. كنتُ أتجاهله كلّيًا. فهو يمشي، ويجلس، ويأكل، وينتشي من دون مراقبتي أو ملاحظتي. يصرخ، ويتألّم، ويرفض، وأنا لا أهتمّ. بدأتُ أحادثه كأنّه آخر. أستمعُ إليه وأفهمه. عرفتُ بأنّ للجسد ذاكرةٌ أخرى، وأنّه يحتفظ بكلّ ما حدث. لا أظنّ أنّي قطعتُ شوطًا طويلًا في رحلتي تلك، غير أنّي على الأقلّ، بدأتُ باكتشاف هذا الجسد خارج القصيدة.
*************************
المسافة بين الجسد والياء
مع الوقت، طوّرتُ لغةً خاصةً مع جسدي. لم يكن سهلًا في البداية أنّ أسمّي هذا الجسد “جسدي”، فالمسافة بين كلمة جسد وياء الملكيّة تطلّبَت منّي رحلةً طويلةً من النّبش في تربة هذا الجسد، واكتشاف بذوره، وإعادة ريّها، وتحريره من أيدي المستعمِرين، وأقدامهم، ونزواتهم، وأسلحتهم. ولا تزال الرحلةُ شاقّةً كي لا أعود إلى تسميته جسدًا رديئًا مثلمَا كتبتُ في قصيدةٍ قبل ثلاث سنوات:
تركتُ جثّتي جريحةً ونازحة
وأقرَضَني إلهٌ سكّيرٌ جسدًا رديئًا
يعبر فيه جنودٌ كثيرون.
ولم أتضجّر من جفافِ الحلم
أو أنتبّه لألمٍ بعيدٍ يقرص في مهبلي.
بل صرتُ أمسح بيدٍ حانيةٍ هذا الجسد، وأعي بأنّه قد تأذّى كثيرًا، لكنه على الرغم من ذلك لا يزال ينضح بالحياة.
سألتُ شاعرتَين عربيَّتَين عن علاقتهما بجسدَيهما، وتأثير الشّعر على هذه العلاقة، وعمّا إذا أعانهما في رحلة اكتشاف الجسد ومداواته، كما أعانني.
*************************
مضبوطة في مقاس الجسد الأنثوي، وأنظم الشّعر
تحدّثتُ مع إسراء رفعت، شاعرة وروائيّة من السودان وُلِدت في اليمن ونشأَت في السعودية، ولها مدوّنةٌ صوتيّةٌ تقرأ فيها الشّعر. صدرَت لها مجموعةٌ قصصيّةٌ بعنوان “القرية التي اشتعلَت من بقعةٍ في السرير” (2022)، حازَت على جائزة الطيّب صالح للقصّة القصيرة.
تصفُ إسراء علاقتها بالشّعر: “الشّعر أقدر على التعبير حين يتعلّق الأمر بالخوف الأنثوي، والحب، والوجد، والشوق والمجتمع. كيف أعبّر عن حراسته الدائمة لي وعينه اليقِظة على الدوام؟ أسمع أغنية “أرفض المسافة” لمحمد عبده. أقرأها قصيدةً، أتعرّف إلى شاعرها، أنام، تتخمّر القصيدة في رأسي، أصحو وأكتب نصًا يحكي عن المسافة من وجهة نظر البنت، يكون قصيدةً إلهامها آتٍ من منطقةٍ ما في القلب. كتابته تفرّغ ثقل المعاناة وتُلبسها حلّةً جميلة. إذن – على الأقل – أجني أن يكون حزني جميلًا وقابلًا للتداول، مثل أغنيةٍ لطلال مداح”.
*************************
مواكبة القضايا أم الانحياز للهواجس؟
“كبرتُ فطُلب مني كتابة الشعر لمواكبة القضايا، لكنّي لم أستطع”. تتابع إسراء: “خارجًا من القلب أو لا، هكذا كنتُ أقول”.
وجدَت إسراء أنّها بالشّعر تستطيع التعبير عمّا يشغلها وتستشعره كامرأةٍ عربيّة، وتُعرّج على تجارب أخرياتٍ قائلة: “ليس للمرأة في العالم العربي – عمومًا – وسائل عدّة للتعبير عن مشاعرها، وحياتها، وأفكارها، والحب، عن مخاوفها والأسئلة المهمّة بالنسبة إليها، عن دورها واتساقها مع جسدها وروحها وظنون المجتمع… كلّ قصيدةٍ هي موضوع شكٍّ وهجوم. لذا، كانت قصائدي محفوظةً في صندوقٍ وردي، قد تستخدمه بنتٌ أخرى للاحتفاظ بأساورها أو مالها الفائض”.
مَن تحبّين؟ فهذه قصيدةٌ عن الحبّ!
كيف تعرفين هذه الأشياء؟ هذه قصيدةٌ تتناولين فيها شعورَ رجُل!
ما معنى كلمة (صدري) في هذه القصيدة؟ هل تشيرين إلى جزءٍ من جسدك علنًا؟
أيّ حدودٍ تريدين كسرها بهذا الشّعر؟ إنكِ تدعين النساء إلى التمرّد.
هكذا تعلّمتُ أن أدسّ الشعور. أعرف أنّ للقصائد وقتها الذي ستخرج فيه لتتمشّى وتجاهر بصوتها، لكن متى؟ كنتُ أقول.
تتابع إسراء: “وقد خرجَت. وقتها، عرفتُ أنّ التحدّي الأساسي ليس أن تخرج قصيدةٌ أشير فيها إلى جزءٍ من جسدي أو إلى رجلٍ أحبّه، بل أن أقرأ بعينٍ مفتوحةٍ وأشاهد وأسمع تبِعات هذا الشّعر من دون أن أتعرض للأذى”.
يدفع بعضي بعضًا
تجاه الحوافّ
على قمّة التجربة.
*************************
“النساء لا ينظمن الشِّعر”
ماذا يعني أن تكوني امرأةً تنظم الشعر؟
ما كان يُردَّد على إسراء هو اعتراضٌ يحاول أن يُصادِر منها، ومن النساء عامة، القدرة على نظم الشِّعر أصلًا. يقولون إنّ ما تكتبه النساء ليس شعرًا بل خواطر، فتردّ إسراء: “وما العيب في الخواطر؟”.
يقولون إنّ المرأة لا تكتب سوى عن “مشاكلها المعهودة”، فتجيب إسراء أنها لا تملك رفاهيّة الكتابة عن “خيلٍ جميلٍ يعدو في حقلٍ أخضر”. لن تكتب شِعرًا لمجرّد الشّعر. ستنظمه للمقاومة أو حتى للتفريغ. ستنظمُ واقعها في قصائد. فمَن يدها في النار، ستكتب عن الحريق.
تقول إسراء: “أكتب القصيدة عن قلقي، عن شعوري بثقوبٍ في الفستان الذي أرتديه صباح كل يوم، عن انتزاعي كلّ العيون آخر الليل عن الفستان قبل إلقائه في سلّة الملابس المُتّسخة. أكتب عن مشرّدةٍ ملوِّثة الرداء بدماء حيضها، عن حقّها في التعليم وكتابة الشعر، عن أخرى تدور كالرّحى في مطحنة الأعمال المنزليّة ثمّ تُخان وتُهان. لا رفاهيّة عندما يكون عندي قضيّة. قد أكتب عن قفزة القلب حين ينظر إليّ الولد الذي تمنّيت طويلًا أن ينظر إليّ، ولكن أليسَت هذه أيضًا قضيّة؟ أن أحصل على الحبّ الذي أتمنّاه؟ والشعور الذي أتمنّاه؟ أن أنتصر للحبّ الذي حصلتُ عليه؟ أكتب القصيدة عن بنتٍ تبادر، بكلمة الحبّ، باقتراب الجسد، بقول القصيدة، برمي التلميح، وهي آمنةٌ من الوصم. أكتب عن أمٍّ غير قلقةٍ من تربية الصغار. أكتب عمّا شكّلَني قطعةً قطعة، وعن الاضطرابات النفسيّة، وعن الشِّعر ذاته. وتظلّ قصيدتي عن نفسي موضع الجدل والكلام الكثير”.
*************************
تولد قصائدنا موصومة
قصيدة الرجل “قصيدة”، لكن قصيدة المرأة هي “قصيدة امرأة”. تقول إسراء موافِقة: “الطريق طويلةٌ وملتويةٌ لتُفهم قصيدة المرأة قصيدةً إنسانيةً مجرّدة، من دون جموح الظنون ورَمي التهم، ومن دون النظر إلى انحناءات الجسد ومن ثمّ عدّها ضمن عناصر تقييم القصيدة، ومن دون الوصم والحكم عليها”.
كتبَت إسراء رفعت في قصيدةٍ بعنوان “الصبيّة”:
الصبيّة
النبيّة
كبرَت مثل كلّ البنات
بتلةً بتلة
حتّى استوَت
زهرةً في الربيع
تتشاقى رفقة الأصدقاء
ألف صديق
في الفريق
تلعب الضمنة
تركل المستديرة
تركل أشياءَ جامحةً في الظنون
فتغلي القلوب وتندلع المشكلات
الصبيّة
النبيّة
تُراهق وثبًا خلال المراحل
في درجٍ ليس كالدّرج الاعتيادي
تنزوي في مكانٍ قصيّ
في أوّل النضج
كانت تتوق إلى فرصةٍ كي تقول لذاك الفتى
أحبّكَ
وأن تطلب من والدٍ صارم بضع الجنيهات كي تشتري المعطف المخملي الأنيق
فمذ رأَته رأَت نفسها فيه تُحيي انحناءاتِه الذابلات
وتنقذه من برودة جسم البلاستيك!
على واجهة محلّ الثياب
لكنّها انتظرَت للشتاء
حتّى نمَت في زوايا اللّسان قدرتها للكلام
قالَت أحبّكَ،
لكنّه ساءَه أن تقول.
قالَت تجرّب
لكن كلّ العيون
تناقلَت الخبر عن بنتٍ تجرّب
لا تتلقّى
وليسَت تسلّم بالمُمكنات.
*************************
ساحة معارك وصيحة حرية وانفلات
أمّا الشاعرة والروائيّة المصريّة إيمان السباعي، التي صدرَت لها مجموعةٌ شعريّةٌ بعنوان “هزائم الورد”، وأخرى قصصيّةٌ بعنوان “أنا الآن وحيدة”، فكتبَت عن محاولتها النّأي بجسدها عن المعارك على جسد المرأة، وفيه، وحوله، ومن دونه؛ تلك القتالات الممتدّة منذ الأزل، والمستمرّة حتّى الآن.
تقول إيمان: “في تراثنا الممتلئ بالكبت، اكتسب جسد المرأة خصوصيّة امتيازه، فأصبح ساحة معارك وصيحة حرّيةٍ وانفلات. حاولتُ دائمًا أن أقيم علاقةً مع جسدي بعيدًا عن هذا كلّه، فأنا كامرأةٍ أؤمن أنّ لي وحدي حرّية التصرّف بجسدي، ودوري كشاعرةٍ هو الوعي بهذا الإيمان”.
*************************
جسد فريسةٍ يئنُّ ويرتعب
“عشتُ طويلًا في جسد الفريسة، الجسد الذي يجفل من أيّ ملامسةٍ باعتبارها فخًّا”. تبرع إيمان في وصف حالة الجسد الفرائسي الذي نعلق فيه كنساءٍ لزمانٍ طويل، وربّما للأبد، وتتابع: “ولا أخفي أنّني إلى الآن أجفل أحيانًا من لمسةٍ عفويّةٍ أو احتكاكٍ في الزحام. أجفل لدرجة الرعب والرغبة في التقيؤ”.
أفكّر في أثناء الكتابة عمّا عرفتُه عن جسدي بالتجربة. عرفتُه مريضًا، وعرفتُ نقاط ضعفه، وشممتُ رائحته. عرفتُه يتغيّر، يصبح أكثر رسوخًا وأقلّ عنجهيّة
لكن تتدخّل الشاعرة لتعيدني إلى الاندماج مع جسد العالم وحركته، فأنا لستُ فريسة، وإن كان الآخر يتعامل معي على هذا الأساس، فهذا لا يخصّني. رغبته في انتهاك جسدي لا علاقة لها بحرّية هذا الجسد، وقوّته، واستقلاله عن رغبات الآخر وسلطته.
أفكّر في أثناء الكتابة عمّا عرفتُه عن جسدي بالتجربة. عرفتُه مريضًا، وعرفتُ نقاط ضعفه، وشممتُ رائحته. عرفتُه يتغيّر، يصبح أكثر رسوخًا وأقلّ عنجهيّة. أنا لا أقدّس جسدي ولا أهينه، بل أدّعي فقط أنّني أعرفه. أحيانًا أخاف جسدي لأنّني أكره الألم. أفكّر بجسدي في غرفة تعذيبٍ أو غرفة ولادة، مع أنّي لم أجرّب حاله في أيٍّ من الوضعَين. أحيانًا أحبّ جسدي عندما ينفتح لجسد من أُحبّ، وأحيانًا أشعر بالصدمة عندما ينقلبُ عليّ منزويًا ورافضًا:
هذا النهار رائق
يمكنني أن أترك غضبي في البيت
وأتمشّى تحت الشمس
نظرتُ إلى ذراعيَ وقلت:
ربّما بترها ليس ضروريًا
دعامةٌ قويّةٌ ستُصلِح الأمر.
*************************
الحياة مقابل القصيدة
عن مفاهيم مجتمعيةٍ ودينيةٍ مثل الستر والعفّة كدلالةٍ على الشرف، وتعهير المرأة التي تقرّر استرداد جسدها والتصرّف بحرّية، تقول إيمان: “في ثقافةٍ تعتبر جسد المرأة عورةً وتعريته عارًا، تضطرّ الشاعرةُ إلى خوض معركةٍ أزعم أنّها فكريّة أكثر من كونها شعريّة خالصة، لكن هذا ضروري أيضًا. شاعرةٌ في أفغانستان مثلًا، قد تدفع حياتها ثمنًا لقصيدةٍ عن جسدها، وشاعرةٌ في مصر – أو شاعرٌ بالمناسبة – قد تواجه الحبس لأنّها تنقلب على أعراف المجتمع وتقاليد الأسرة. لكن في مصر أو أفغانستان، قد تواجه امرأةٌ عاديةٌ القتل من دون إدانةٍ مجتمعيةٍ أو قانونية للقاتل، أو بعقوبةٍ مُخفّفةٍ له، لأنّ القتل كان “بدافع الشرف”! بالنسبة لي، جسدي هو المكان الوحيد الذي أنتمي إليه فعلًا، والذي قد أواجه الموت دفاعًا عنه”.
في قصيدة “كما في الحرب“، كتبَت إيمان السباعي:
لماذا لا نعيش في فندقٍ بُني على أنقاض حيٍّ دُمّر في القصف؟
أو نعيش في سيارة؟
سنرفع صوت الموسيقى
ونتجاهل الموتى الذين يلوّحون لنا على الطرق السريعة
أسنانهم صفراء ورائحتهم نتِنة وفي عيونهم فزع
بمرور الوقت، لن نشعر بالذنب
سنتجاوز هذا كلّه وننام بعمقٍ على سريرٍ نظيف
كان لعروسَين تزوّجا حديثًا
سوف أستيقظ في الليل وأحدّق في عينَيْ سمكة الزينة
ثمّ أتأملكَ نائمًا
أنت الصّبي الفاتن في رواية Death in Venice
أمدّ يدي بين ساقَيك وأتلوّى من الألم وأموت
أمدّ يدي بين ساقيّ وألمس هذا الدّمل الصغير
كزهرةٍ نابتة
فيعتلّ وينكمش تحت جلدي
أشعر بتوتّراته الواهنة داخلي
أحبس أنفاسي من الخوف وأتشبّث بجسدك
جسد الطفل
جسد الصّبي
جسد الرجل
جسد المرأة.
لا يوجد مكانٌ أشدّ كآبةً من غرفةٍ في فندقٍ بُني حديثًا
لا يوجد مكانٌ أكثر رعبًا من سيّارةٍ على طريقٍ سريع
لا مكانٌ سوى هذا الجسد.
- 1.أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر، بلاغات النساء، مصر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2021.
- 2.نصّ شِعري غير منشور سابقًا للشاعرة، شاركَته مع الكاتبة.
- 3.أي الوصم بالعهر.
- جيم
آلاء حسانين
آلاء حسانين شاعرة مصريّة ولدت في السعودية عام 1996، وتقيم في باريس. أصدرت ديواني الشعر “يخرج مرتجفًا من أعماقه” (2018) و”العهد الجديد كلًيا” (2019) عن منشورات تكوين، ومجموعة قصصية بعنوان “حكايات السأم” (2021) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. درست الأدب الإنجليزي في جامعة القصيم. وتخرّجت من قسم الدراما في المعهد العالي للفنون المسرحية في القاهرة. فائزة بجائزة اليونسكو للشِّعر في باريس عام 2015.