مراجعة أحمد صالح لديوان يخرج مرتجفًا من أعماقه

كتبَ: أحمد صالح

من الصفحة الأولى ينفتح عالم آلاء، عالم الشاعر الذي يحتفي بأصدقائه الذين رافقوه في الرحلة. أطلت الأسماء متتابعة كما لو أنها حشدٌ سيرافقك بين صفحات الكتاب، وهذا ما حدث فعلاً.
فتكتب عن أحد أصدقائها بأنه:”
الوحيد الذي- منذ الولادة- كان يبكي من تعب
ولم يكن في جنازته أحد..”
وتكتب لآخر:
أيها الماشي وحيدًا
على امتداد الزرقة البحرية
ووجهك الأسمر يلمع تحت الشمس
وأعضاؤك كلها تبكي
من الكبر لا من الوهن
من العمر الطويل
الذي ظل يتراكم فوق عظامك
مثل الكلس على جدران المعابد..
وتكتب إلى أيمن ساعي الذي رثته في أكثر من قصيدة:
لو أنك لم ترحل عند الفجر
ولم تغادر
كضوء خافت
يزحف في الممشى..
آلاء صاحبة الصوت الخاص، الصوت الصادق، الرشيق، اللماح، البسيط، المتزن، السلس، والعذب، صوتها الذي لا يمكنك أن تتجاهله برغم الدلالات الواضحة على عمرها الذي أكدته وقت كتابة بعض القصائد، فتقول:
” منذ تسعة عشر عامًا
وقلبي يتلوى
مثل مريض بالصرع..”
ثم تعود وتؤكد بأن:
” تسعة عشر عامًا
ليست شيئًا ضئيلًا..”
فتاة التاسعة عشرة تقول تجربتها مع الحياة، تفتح عالمها الداخلي بكل تركيز، ليدخل القارىء منه أوسع الأبواب على آلاء. تصرح الشاعرة- وانا أطلق عليها هذا اللقب منذ مدة طويلة- عن الحياة بتصريح مخيف ومرعب، وقد يكون حقيقياً جداً حيث تقول: ” يستحيل تخيل حياة لا يتمكن المرء فيها من قتل نفسه” وتقول كذلك :
وليس لدينا حياةٌ
يا ابن العم..
حياتنا مثقوبة
لا تُبحر
أقدامنا غائصة في الرمل..
وأحلامنا،
مثل الثياب المستعارة
لا تجيء أبداً على مقاسنا..
ربما تكون القصائد سوداوية، لأنه من العنوان يبدو واضحاً أن الإرتجاف سوف يغلب على المشهد،وأنك مهما حاولت أن تثّبت نفسك، فالأعماق تظل دوماً مرتجفة. آلاء تسلط الضوء على تجربتها في العالم الذي يتداعى أو ربما قد يكون تداعى بالفعل، طارحةً أسئلتها الواضحة والجريئة والجارحة بنفس الرتم اللامبالي لشخص لا يكترث لكنه يحاول أن يلملم أشلائه، حيث تقول:
كنت أكبر وحدي
هكذا
كظلٍ،
يتمدد على جدار.
ومما يتضح كذلك في الديوان، أن آلاء ليست أنا واحدة، بل أنات متعددة، متناقضة، ومتشابكة، تتصارع مع بعضها، وتستميت حتى تتوصل إلى ماهيتها الحقيقية من خلال الشعر، ونستطيع أن نرى الصراع متجليًا في هذا المقطع:”
قال: لا أذكر أي شيء كنته، قبل أن أصير ظلًا.
وقف أمام المرآة، عاريًا.. عاريًا تمامًا. مثلما ينبغي لظلٍ أن يكون.
أخذ يقلد كل الأشياء..
صار كرسيًا وقال: لا أذكر رائحة الخشب القديم.. لم أكنه.
صار مشجبًا وأخذت المعاطف تتدلى من رقبته.
صار بابًا، وأخذ يغلق كل حين، دون أسباب واضحة..
صار ستائر لا تمنع الليل من التدفق..
صار ليلًا يهبط الدرج ويختفي في العتمة.
جرب كل الأشياء وقال: لا.. لم أكنها.”
ولا يمكن إغفال تكرار احتفائها بالأصدقاء سواءً برثائهم أو التحدث إليهم في الأسوار الخلفية للعالم، حتى لكأنها تقضي الوقت برفقتهم حتى لو لم يعودوا متواجدين في هذا العالم.. فتكتب عن أحدهم:”
تحدث مرات عن المطر
وعن الخلد الذي يحفر في قلبه
وقال بأنه اصطاد طائرًا
عندما كان طفلًا
وأصيب بالذعر حين لم يحلق مجددًا..
وفي الليل
يغادر أولًا
يقول بأنه ذاهب ليلعق جراحه..”
وهي بهذا تبقيهم أحياء في الشعر.
الديوان رحلة ألم قاسية، عذاب لا يمكنك أن تتخلص منه بسهولة، لكن هكذا هي الأعمال المؤثرة، تسرقك من نفسك ثم تلقيك في قلب النار بلا أسلحة سوى البكاء.
قرأت الديوان وأنا أرى إمرأة تروض الألم، تصل إلى طريقها بقدمين متعبتين من أثر المشي الطويل .. الطويل جداً . إنه ليس ديواناً بالمعنى الصريح، فآلاء لم تصنف الأمر سوى أنه رحلةٌ طويلة في دروب الحياة التي وصفتها قائلة بأنها:” مثل مغص في معدتي..” ولهذا فهي الصوت المكتوم الذي يصرخ في جدرانه الداخلية فقط، هي الظل، هي المرايا المكسورة، هي القطار الذي يهرب من قدميك أثناء لحظة الصعود، هي المرأة الصغيرة من الخارج، الكبيرة جداً في الداخل، هي الغربة، هي الجسد المسجون في قفص الذكورة، والذي حلمت بالفكاك منه، فقد أطلقت نداءات عديدة عن رغبتها في التحليق بعيداً، فتقول:” دعني لا أموت
طيرًا دافئًا
لم يجرب الطيران
ولم يعرف
كيف ترف الأجنحة.. ” هي التي تحلم بالكوابيس التي لا ترحل، هي الحكمة وإن لم تتجاوز الأربعين عاماً بعد، هي التي تأخذ العزاء في أصدقائها المغادرين فور أن تقرر قضاء حياة كاملة معهم، هي التي وجدت أن الشعر هو الحل وأن بالإمكان أن يكون الطريق الوحيد لمواجهة فظاعة العالم، كما تقول في ختام إحدى القصائد:”
حين يكون كل ما تريده
هو أن تموت
لكن
ليس كما يموت الناس.
وأن تحيا
لكن،
ليس كما يحيا الناس..
حينها فقط،
قد يكون الشعر حلاً..”
هي الثورة، هي التي تجعلك تقرر أنه لا يمكن الحياة بدون جمال الشعر، هي المخذولة دائماً وإن كانت الأيدي تحاول أن ان تصل إلى كفيها، هي التي لا تغرق بل تطفو في حيرة، هي التي بلا وجهة سوى أكتاف الأصدقاء، هي العائلة سعيدة كانت أم حزينة، هي الأبوة، هي الأمومة، هي التي تعرف حقاً أن الحياة مبتذلة وغير قابلة للعيش، هي التي تلوح مودعة في ختام الرحلة قائلة:” ربما عليّ أن أودعكم الآن
كي أصير حفارًا
وأدفن جثتي..”

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *