المخرج فوزي صالح عن ورده المسموم: مهمتي ليست خلق قصة بل خلق صورة.
مرجعة وحوار: آلاء حسانين. مجلة اليمامة.
أن تسأل، هذا هو جوهر الفن.
من هو صقر؟ ومن هي تحية؟ ومن هذا العراف الذي يراقب المارة بعيون عارفة، حيث يخافون منه حينًا، ويلجأون إليه حينًا آخر في أوج يأسهم، بينما يجلس على كرسيه الذهبي، مرتديًا قبعة شمس في بيئة بالكاد يتسلل النور إليها، مستمتعًا برمي الورق، وتحديد مصائر حياتهم.
قيل الكثير عن ورد مسموم، فقد يكون أحد أكثر الأفلام إثارة للجدل في السنوات الأخيرة، لكن في حواري مع مخرجه فوزي صالح، حاولت أن أزيح الستائر الشفافة عن الفيلم، لأتمكن حقًا من رؤية عوالمه، فورد مسموم برأيي هو فيلم مخادع، ويكمن ذلك في كونه فيلمًا ملتبسًا، إذ يفاجئ المشاهد بقرصات متتالية، بلؤم أظنه متعمدًا، لإبعاد المشاهد الذي قد يرغب بفيلم يدغدغ عواطفه، أو يزيد رصيده من النهايات السعيدة.
ولنغض النظر عن سخرية فوزي صالح من الأمر، حيث يقول ضاحكًا: أنا أريد أن أضايق الناس. لأن الفيلم يحمل أكثر مما يبدو عليه، رغم نفور الكثيرين منه، ويعود ذلك برأيي إلى أن المخرج لم يعمل على طمأنة المشاهد من خلال منحه إجابات جاهزة عن كل أسلئته، بدءًا بطبيعة المكان، وعلاقة الشخصيات ببعضها. بالإضافة إلى أنه لم يشبع عن عمد فضول المشاهد في التعرف على ماضي الشخصيات، و ماذا يريدون أو يحتاجون.
يبدأ الفيلم بخطوات امرأة ترتدي خمارًا طويلًا لا يُظهر وجهها، وبالسير خلف هذه المرأة التي تدعى تحية، نبدأ باكتشاف عالمها تدريجيًا.. الذي يبدو للوهلة الأولى وكأنه متاهة لا تحاول شخصياته الخروج منها، بل وتجاهد تحية لأجل إبقائهم داخلها. فهم يعيشون متآلفين مع المكان، الذي هو عبارة في الأصل عن منطقة مصانع لدبغ الجلود، تقع في قلب القاهرة، يجري فيها نهر سام، يدوس الناس فيه، ويسقط أحد العمال المحمل بالبضائع على قارعته، ويمر كلب ليشرب منه، وبالرغم من كل ذلك، يستمر الجميع بالعيش بعادية مستفزة وسط هذه الحياة غير العادية تمامًا.
تعيش تحية برفقة شاب يدعى صقر، وامرأة أخرى ربما تكون أمها، أو حماتها؟ وتتميز بأنها باردة وأنانية، حيث تأخذ اللحم من أمامهم على الغداء. وبغض النظر عن علاقة الشخصيات ببعضهم، إذ يمكن للمشاهد إلباسهم أي دور يرغب فيه، ولن يؤثر ذلك في الفيلم كثيرًا. فصقر، وهو شاب في العشرينات، يخرج كل صباح للعمل في المدبغة، وتحمل تحية إليه الطعام، كما في الميثولوجيا المصرية القديمة، إذ تحمل المرأة الغداء إلى زوجها الذي خرج للعمل في الحقل.
بينما تعمل تحية كعاملة لتنظيف المراحيض في إحدى الأسواق التجارية، ويبدو أنها هي من تصرف على المنزل، حيث لا وجود للأم تقريبًا، بينما تحية تعمل، وتهتم للمنزل، وتحمل الطعام إلى أخيها كل يوم بلا كلل، إذ يبدو أن هذا الأخ هو كل ما تملكه في هذه الحياة، لذلك تعمل جاهدة على منعه من السفر إلى إيطاليا في هجرة غير شرعية، إلى حد محاولتها الانتحار عندما اكتشفت أن الأم تحاول أن تسهل سفره، بل و ذهبت بنفسها للإبلاغ عنه، مما تسبب بسجنه.
وبغض النظر عن قصة الفيلم، لأنه من الأفضل عدم البحث عن القصة، لأن ورد مسموم لم يكن معنيًا بسرد قصة، بل بخلق عالم.. أو تصوير لعالم موجود بالفعل، يحتمل آلاف القصص. فالمهم هنا هو هذا السرد الذي قدمه الفيلم لعالم أسطوري، كأن عابرًا ذات ليلة رفع هاتفه المحمول والتقط صورًا كثيرة للمكان، ولأفراده، ولحكاياتهم الناقصة.. كأنها مجرد محاولة للقبض على الزمن المفقود، على المكان الذي على وشك أن يفقد، فرغم صمود منطقة المدابغ طوال هذه المدة، من دون التماهي مع العالم الذي يتطور في الخارج، إلا أني أرجح أن أحد أهداف المخرج كان محاولة تخليد المكان في ذاكرة السينما، وقد عبرت لحظة القبض عن الزمن المفقود هذه عن نفسها في أحد المشاهد، حيث صورت الكاميرا عبارة: لا لنقل المدابغ. التي كُتبت على أحد الجدران، دون محاولة للتركيز عليها. ويحسب لفوزي صالح تمكنه من القبض على عالم غاية في القدم والثراء، عالم لم يبهت أو يتغير أو يتلون.. فما تزال وروده سامة، وأفراده يعيشون دون أمل أو يأس، ويحملون على ظهورهم جلودهم المدبوغة، دون كلل أو تأفف، وبلامح جامدة تعمد المخرج أن يصور بها جميع شخصياته، فهو لا يريد أية عاطفة أو شفقة مثلما يقول. حتى عندما تختلط جثة الإنسان بجثة الحصان الميت على الطريق، أو عندما تدور المرأة في فلك الرجل، باعتباره كل ما تملكه في حياة خاوية، وحتى عندما يظل الإنسان يدور في هذه الساقية طوال حياته، متعايشًا ومتآلفًا مع تيهه الأبدي.
وعودًا على أسلوب أحمد فوزي صالح في الفيلم، وهو محاولته للإشارة إلى بواطن الأشياء، من خلال طرح أسئلة كثيرة مباشرة وغير مباشرة، دون أن يكون معنيًا بالإجابة عليها، فهو يريد من المشاهد أن يخرج محملًا بالأسئلة، حيث يقتبس فوزي عبارة الإمام النفري إذ يقول: إني أحدثك لترى، فإذا رأيت، فلا حديث.» فهو لا يريد أن يحكي قصة: هناك آلاف القصص، هناك آلاف الحكايا، الحياة مكررة، وأنا لستُ معنيًا بأن أحكي.
فهل حقق فوزي هذا الهدف من الفيلم؟ نعم، الناس رؤوا، عرفوا عن تحية وعن صقر وعن عالمهم البكر، المحمي، كأنهما جنينان في رحم واحد، حيث تجهض تحية كل محاولات أخيها صقر للفرار من هذا العالم، فهي آمنة ومستأنسة أكثر وهي تعيش وتنمو في هذه المياه المسمومة، وسواء قبِل أم لا، فهي تسخر كل وقتها لأجل إبقائه إلى جانبها، بدءا من حملها الطعام إليه كل يوم، وهو فعل أمومي بامتياز، إذ في حرصها على إبقائه مُشبعًا، ربما تضمن بقاءه إلى جوارها. وقد تكون الأخوة في هذا الفيلم هي مجرد» رمز» لأن في الأخوة أقصى درجات الأمان التي تحتاجها المرأة وتبحث عنها، ألم يُذكر في التراث المصري أن الزوجة كانت تنادي زوجها:»يا أخي»؟
ويرى فوزي أن الفن هو ضرب من ضروب التصوف، لأنه منشغل بتقديم الباطن.. حيث عمل في فيلمه على خلق معاني باطنية، كما حرص على أن يكون بناء الفيلم دائريًا، فبدأ بتحية وهي تدور باحثة عن أخيها، وانتهى بها وهي مستمرة في الدوران، في حالة من التيه المتناهي..
ويمكن اعتبار ورد مسموم هو عالم تحية، فقد رأينا المدابغ من خلالها، ونظرنا إلى الشخصيات بالكيفية التي تنظر إليهم بها، فالكاميرا لم تخرج عن هالة تحية، ولذا ظهرت بعض شخصيات الفيلم مهمشة للغاية بالرغم من ثراء شخصياتهم وقصصهم، لكن تحية ببساطة شديدة لم تكن معنية بهم. فالأم لم تظهر في الفيلم إلا بمقدار أثرها في حياة تحية، والعراف، والمدابغ بأكملها، وحتى صقر ذاته، لم نعرف عنه أكثر من أثره عليها، ما الذي عرفناه عن علاقته العاطفية ورحلته في الحياة والسفر والسجن؟ لا شيء أكثر مما أرادتنا تحية أن نعرفه. وكأنها الفلك الذي يدور حوله بقية الشخصيات والأحداث وحتى المتفرج، فقد جعلنا المخرج ندور حول تحية في مولوية لا نهائية.
ومن الواضح أن أثر التصوف على ورد مسموم كان كبيرًا، فبالنظر إلى شريط الصوت في الفيلم، نجد أن المخرج قد استغنى عن الموسيقى التصويرية، وعمل برفقة المصممة المغربية سارة قدوري على خلق إيقاع شبيه بالترانيم الصوفية باستخدام أصوات الآلات في منطقة المدابغ.
كما يعد فيلم ورد مسموم أحد أفلام الدراما الوثائقية « Docudrama»ويقول فوزي بأنه ليس صحيحًا أن أداء الممثلين كان مرتجلًا، لأنه عمل على تدريبهم لأجل خلق هذه الحالة حتى لا يقع في فخ الشفقة أو التعاطف، وترتب على ذلك التخلي عن عناصر إخراجية كثيرة، فقد تعامل مع الممثلين باعتبارهم مجرد عنصر داخل الكادر، كما حرص على ترك مسافة بين الكاميرا وما يتم تصويره، وتخلى عن لقطة رد الفعل reaction shot»، واعيًا بأن كل ذلك سيخلق حتمًا مسافة بين الجمهور وبين الفيلم، وسيحول دون اندماج المشاهد، وهذا بالضبط ما يهدف إليه، فيقول بأنه لا يريد متفرجًا مندمجًا، بل مشاهدًا مفكرًا.
بالإضافة إلى أن فوزي عمل على خلق حالة من العنف الحسي في الفيلم، باستخدام عدة أساليب إخراجية مثل اعتماده على الكاميرا المحمولة والإضاءة الطبيعية، زيادة على أسلوب التمثيل والحوارات المقتضبة والجامدة، فقد عمل بشكل دؤوب على أن يخرج المشاهد من صالة العرض مشوشًا، منزعجًا، يسد أنفه بيديه حتى لا يشم رائحة المدابغ.
أما عن رحلته السينمائية فيقول بأن اهتمامه بالسينما بدأ في الرابعة عشرة من عمره، حينما انتقل إلى حيهم في مدينة بورسعيد رجل إيطالي قد سجل أكثر من ألف فيلم من التليفزيون الإيطالي، فكان أول ما شاهده هو فيلم من مالي للمخرج سليمان سيسي، وقد اكتشف حينها وجود سينما أخرى في العالم غير السينما الأمريكية والمصرية التجارية.. تبع ذلك قراءته لرواية «ورود سامة لصقر» للكاتب أحمد زغلول الشيطي وتأثره بها، وتحكي عن شاب يدعى صقر ينتحر لوقوعه في حب طبيبة غنية، ومنذ ذلك الحين قرر فوزي دخول معهد السينما ليتمكن من تصوير هذا الفيلم الذي مثل له حلم مراهقته.
بالإضافة لورد مسموم كان لفوزي صالح تجربة إخراجية أخرى عام 2011 وهو الفيلم التسجيلي القصير «جلد حيّ» الذي صُور في منطقة المدابغ أيضًا بقصة مختلفة، وقد اعتبره فوزي نواة لورد مسموم. وعند سؤاله عن تأخر إخراج الفيلم طوال هذه السنوات بالرغم من أن العزم كان موجودًا من وقتها، قال بأنه في طبيعة الأحوال شخص متشكك، وربما هذا ما أدى إلى تغيير السيناريو أكثر من ثلاث مرات حتى بعد بدء التصوير، بالإضافة إلى أنه أراد للمكان أن يتخلخل إليه عبر كل مسامه، فبعد جلد حي عاش فوزي في منطقة المدابغ لسبع سنوات!
وربما لذلك بدا الفيلم وكأن من صوره هو أحد السكان، فكأن الشخصيات هي من تروي القصص على لسانها، وكأنه قد صار لهم صوت وأخذوا يعبرون عن أنفسهم، خارج الصورة النمطية التي اعتادت السينما على تقديمها لمثل هذه القصص أو الأماكن.
وقد كرر فوزي بأن أحد أهم أهدافه هو أن يكون صوت من لا صوت لهم، باعتباره أحد أبناء الطبقة العاملة، وكان يرى السينما دائمًا كصناعة برجوازية لا تعبر عنه أو عن أشباهه، بل وتروي قصصهم على لسان غيرهم فتخرج منمطة ومشوهة، لذا حرص على أن يكون فيلم ورد مسموم فرصة لأن يقوم المهمشون برواية قصصهم بأنفسهم هذه المرة.
أما عما بعد ورد مسموم فيقول فوزي بأنه لا يريد أن يبوح بأحلام قد يتم إجهاضها، لكنه يعمل طوال الوقت، ويصف نفسه بأنه مقاتل. وهذا يجعلنا نتطلع حذرين لعمله القادم، ونتساءل عن الطريقة التي سيختار بها فوزي أن يضايق الجمهور هذه المرة.
شارك ورد مسمسوم في أكثر من 70 مهرجان حول العالم، كما حصد أكثر من 16 جائزة، ومثل مصر في المهرجان العالمي للأوسكار عام 2019، كما أتيح للعرض على منصة نتفلكس الشرق الأوسط في أبريل 2020.
http://www.alyamamahonline.com/ItemDetails.aspx?articleId=3110