في البدء.
كتبت عن البحر
عن رغبتي في الذهاب بعيدًا
لكني ذهبت بعيدًا بالفعل
لا يوجد ما هو أبعد.
أقلعت عن الكتابة
مثلما يقلع رجل عن الحب
أو مثلما تقلع امرأة
عن رغبتها الملحة
في أن تصير محبوبة.
مثلما أحاول أنا الاقلاع
عن الحزن وعن الأمل.
لكن قلبي لا يتوقف عن الدق
ومع كل دقة أسمع أنينًا.
هذا كله لا يهم
لقد مللت من الشكوى
ويومًا وراء يوم
يبهت الشعر في قلبي
كأني لم أقل يومًا شعرًا،
كأني لم أكن يومًا
لم أشعر بالحزن
ولم أكتب عن البحر
أو عن ذكرى البحر
كأني لم أغرق أبدًا
ولم يمد الله يده الزرقاء
نحو قلبي
كأنه لم ينفخ نفخة عظيمة
نفخة مؤلمة
ويقول: هاكِ حياة أخرى.
ثم ذهبت أبعد
أبعد من الرمل حين يهاجر بين الأصابع
أبعد من الرعشة على كامل الجسد
وأكمل
لكن الله لم ينظر نحو قلبي
أو حين نظر إليه
لم يدرك
كم من الانهاك حمله هذا القلب
كم من التعب
آه من التعب.
يخشوشن قلبي،
وأنضج
أفقد الحدس الطفولي
أفقد الرغبة في الكتابة
كأن غدًا آخر نهار.
تكرر الأيام بعضها
حدسي ينحدر
ويبتعد الله عن سريري
ولا أعود أمد يدي إليه
ليبقى
كأني اعتدت على الغياب
كأني مللت الأدعية
لكن من يوقف هذا النحيب؟
من أين يأتي النحيب؟
من بقعة زرقاء في قلبي
على ساقي
على ذراعي
بقع زرقاء في كل مكان
والأم الميتة تتجسد فيَّ
ولا أعود أسمع صوتًا
أو همسًا.
أحب رجلًا لا يعرف عنّي
إنسانًا مثلي،
لا أُؤلهه
لا أظنه قادمًا من غيمة
أو ضائعًا في ضباب.
أحبه وأعرف ضعفه
لم ألمسه ولم أشمَّه
لكنّي أراه
قادمًا كل نهار
ماشيًا أمام عينيْ.
هواء كثير يفصل بيننا
هواء يتنفسه كلانا
لكن ذلك لا يخفف ضجري
لا يقلل شغفي الطفولي
بالموت
آه من الموت
مريع ذكر الطفولة والموت
لكن طفولتي امتزجت به
ولم أعرف غيره
لم يحدثني الله إلا حين اقتربت من الغرق
حين كنت تحت الماء
جاء صوته من بعيد
جاءت يده
وجاء حدسه الإلهي.
ومن يومها وأنا أبحث عن الله
بحثي عن الموت
من يومها وكل رجل أحبه
يتمثل فيه الله.
لكني أقلعت عن الإيمان
عادتي السرية التي لا أبوح عنها
للآخرين
لا أقول لهم أن الله حبيبي في كل مكان
وأني أود لو أمسك بيده
أقول بأني لا أؤمن به
من قد يؤمن بشبح أو صورة
من قد يؤمن بملاءة سوداء تغطي المرايا
سرًا أفعل
سرًا أصلي
وأتلو الأدعية
سرًا أقول:” يارب نورني إن كنت موجودًا.”
سرًا أردد:” اجعلني منارة أو قمرًا”
وأخلق أدعيتي
أربيها مثلما يُربى جروًا
أسقيها كأني غيمة تسقي عطشانًا
كأني منارة
كأني قمر.
من يدرك آخر التأويل؟
لا أحد.
لا أحد هنا لأقوله له:”
انظر
ها هي اليراعات تمر.”
لا أحد هنا ليسمع صوتي
حتى الله
حتى الرجل الذي أحببت.
أبحث عن خاتمة لأيامي
تشبهني
كأن أقفز من نافذة
فتلتقطني سحابة
كأن أهوي من جسر
فتمسكني ذراعان
أبحث عن خاتمة
ولا أعود أرغب
بالحياة
ولا بالموت
كأني حجارة تتعثر على الطريق.
دون حلم أكمل آخر الأيام
دون مسرّة
بالرفق أحتمي
بالصحبة الحلوة
بالأيام التي ليست سوداء
ليست بيضاء
بذكرى قططي
التي ماتت
وربما صارت شجرة ليمون.
بالذكرى أجتنب الأيام
كأني قد وصلت إلى آخر الليل.
إلى الخيط الأبيض
والخيط الأسود
وفرقت بينهما.
ما أقرب الليل
فم للنهايات على جثتي
ذراعان محبوبتان تتأملان
ذكرى اللمس
يد مألوفة تغمض الأجفان
وأعرف أني لن أعيش طويلًا
وأفرح
وأبكي
هل هذا دم؟
هل هذه مياه؟
هل هذا نهر غرقت فيه ولم آبه؟
ما أبعد الأيام
ما أقرب الأسى
ما أغرب هذه العلامات على الطريق
ربما كانت في البدء ناسًا
ربما كنتُ في البدء حجرًا.
27 نوفمبر 2024