“إن زرتني سأكون بين اللوز” مراثي الشعراء لأنفسهم وأحبتهم.
آلاء حسانين
ثقافة العالم
السبت 14 يناير 202302:40 م
ينبش داخل نفسه، وداخل العالم. يجعل من نفسه موضوعاً، من أمه وأبيه، من خطواته اللينة، وخدوشه الرقيقة. يراقب، يلتقط، يتأثر، ويلاحظ.
يحزن ويفتقد ويُجرح، لكن حتى ينتقل من النقطة أ إلى النقطة ب، يتوقف قليلاً، ثم يمارس طقسه في النبش، والدفن. يصلي لكل فقد، كأنه أول فقد؛ لكل موت، كأنه أول موت؛ يحفر أعمق، تلك العظام التي يواريها في التربة، يواريها أيضاً في داخل قلبه. حُفر كثيرة، مقابر، منازل، وساحات.
يطوي ذاتاً فوق أخرى، يمرر الطعام المجفف والحلي والرسائل، ليلقاها في حياته التالية.
يسير متثاقلاً، ومع كل خطوة يخطوها يتخفف من أحمال عديدة. أولاً يبدأ بما يتذكر، بما سمع ورأى. يسقط صورة، كلمة، ابتسامة، ثم يسقط ذراعاً، وساقاً، وقلباً، وذاكرة. يتوارى مع كل خطوة يخطوها، يندثر. ثم يخلق من جديد، مع خطواته غير المرئية، حتى تتراءى.
من يدفن من؟ هنا، لا تحتاج إلى جماعة لتمارس طقس الدفن، فالشاعر، يعتني بنفسه، ويدفنها. لا يحتاج الشاعر إلى أن يُرثى، فخطواته مراثٍ، مصافحته للآخرين مراثٍ، وابتساماته في الحفلات والعزاءات، مراثٍ أيضاً. ولو رُثي، فمراثي الآخرين تحصيل حاصل، لأنه قام بالدور المقدس أولاً، لأنه رثى نفسه في العالم، رثى العالم في نفسه.
كان الموت والموت وحده
في مرثيته الشهيرة:” مرثية مصارع الثيران، رثى لوركا صديقه إغناسيو ميخاس:
سوف يأتي الخريف
بأبواق المحار
وأعناب الضباب
وعناقيد التّلال
لكن لن يريد أحد النظر في عينيك
لأنك قد مت إلى الأبد.
ويتابع في قصيدة أخرى راثياً نفسه:
وعرفت أني قُتلت
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثث ونزعوا أسنانها الذهبية
ولم يجدوني قط.
وقد حدث أن رثى شعراء كثر أهلهم وأصدقاءهم، لكن كل شاعر إن لم يرث نفسه مباشرة، فهو يرثيها عبر آخرين، فلوركا الذي كتب عن صديقه إغنياس: “لن يريد أحد النظر في عينيك، لأنك قد مت إلى الأبد”، قد قصد نفسه أيضاً، فلن يريد أحد النظر في عينيك يا لوركا، حتى لو عثروا عليك، فأنت أيضاً ستكون قد متّ إلى الأبد، متّ كلك، مت تماماً، إلى درجة أنهم لن يعثروا عليك قط.
ألا يعد الطقس تكريماً؟ ففي التراث يُقال: إذا أردت أن تصدق موت عزيز، قف على دفنته.
“أبي جف فجأة، تيبس كالشجر المهجور/أبي مات هناك،/أبي دفن هناك في التلّ المطل على مشهد حياته المنهار”
والشاعر، الغريب، والحر، الميت في المجاز، يرحل محملاً بالأسئلة، غامراً العالم باستفهامات كثيرة. ألم يقف سميح القاسم على قبر محمود درويش ليسأله: “أنت تركت الحصان وحيداً، لماذا؟”.
فهنا شاعران يترك أحدهما الحصان وحيداً في المجاز، ويعاتبه الآخر في المجاز المشترك أيضاً، لكن خارج القصيدة. قد لا يصدق أحدهما أن موت الآخر واقعي وملموس، وأنه الذي اعتاد مطاردته في المجاز، واختباء أحدهما من الآخر، قد يخرج للحقيقة، ويطرق بابه، ولا يراه.
لكن ألم يجب درويش قائلاً: “ما الحقيقة؟”. لذلك يعود سميح القاسم إلى مجازهما المشترك، فهناك قد يجد درويش حياً، في أرض غير محرمة، أرض محايدة كما وصفها. ففي الموت، كتب سميح القاسم: “تكبر أرتال إخوتنا الطارئين، وأعداءنا الطارئين، ويزدحم الطقس بالمترفين، الذين يحبوننا ميتين… فلماذا يا درويش: أجبني.. أجبني”. ويجيب درويش: “لي جسدي المؤقت حاضراً أو غائباً/ متران من هذا التراب سيكفيان الآن”.
لم يصدق أحد من الجالسين في ظل شجرة التوت أنك ستحيا
الرسام كما كتب بول كلي: “لا يرسم المرئي، بل يجعله مرئياً”، وكذا الشاعر، فهو بقبضه على موته الشخصي، يجسده، يخلقه، يحضره من عدم ويجلسه أمامه ليقاضيه. فتارة يسأله: لماذا؟ وتارة يقاسمه الصمت والدوناتس. مرة يثور عليه، ومرة يضمه إليه ويقول له: لماذا تبكي؟
يقول درويش: “والموت بعيد/وحديقة بيتك عالية/والشرفة عالية/والصفصافة عالية./فلماذا تبكي/وطريق التبانة واضحة/والليل يضيئك من خصلة شعرك حتى أخمص قدميك/وأنت تطيع الناس وتركض تركض/لا ذئب يعوي في الليل على قمر اصفر كالليمونة”.
درويش، الذي لم ينجب ابناً يفعل به ما فعله بأبيه، كما قال، وكتب عن موت أبيه: “أبي جف فجأة، تيبس كالشجر المهجور./أبي مات هناك،/ أبي دفن هناك في التلّ المطل على مشهد حياته المنهار”.
محمود، الذي لم ينجب ولداً، كتب عن أبيه باعتبار أنه “ولد سرقوا منه الكلام”، فقد رآه لا بصفته أباً، فهو لم يكن كذلك، أي، لم يكن أباً بتمثال الأبوة المعتاد، المرادفة غالباً للخوف، لكن: “لم أشعر بالخوف منه، لأن الزائر لا يثير فينا الخوف. وقد كان أبي يزورنا في الليل، يزورنا لينام، ثم يوقظ الفجر، ويسوقه إلى الحقل. الحقل كان بيته، والنباتات كانت أسرته. لذا كنت أظن أن جدي هو أبي. ونادراً ما كان يكلمني. هل امتصت الأرض عاطفته؟”.
“عد طفلًا ثانية/ علمني الشّعر/ وعلمني إيقاع البحر/…../ عد طفلًا لأرى وجهي في مرآتك/ هل أنت أنا؟/ وأنا أنت؟/فعلمني الشعر لكي أرثيك الآن الآن الآن/ كما ترثيني!”… محمود درويش
لذا تبدلت أدوار الأب والابن في علاقة درويش بأبيه، أو لنقل بأنها تباعدت، أو لم توجد بشكلها الفطري. فقد تعرف درويش على أبيه لاحقاً، عندما كبر، راقبه مثلما تراقب يمامة حجراً لتجلس عليه وتتحجر، مثلما يراقب طائرًا على غصن إنسان جالس تحته لا يراه، فأب درويش: “لم يكن أبي، بقدر ما كان أباً للنباتات والشجر”.
فدرويش وأبوه واحد، ومرثيتهما واحدة، فذات مرة قال له: “كأنك طفلي، كأني أبوك”.
ومرة لعبا معاً لعبة تبادل الأدوار هذه، فقال أحدهما للآخر، أو قال الآخر لنفسه: “عد طفلًا ثانية/علمني الشّعر/وعلمني إيقاع البحر/…../عد طفلاً لأرى وجهي في مرآتك/هل أنت أنا؟/ وأنا أنت؟/فعلِّمْني الشعر لكي أرثيك الآن الآن الآن/ كما ترثيني!”.
هل يمكن أن أصير حسين وتصير أنت آثر؟
أحضر حسين (البرغوثي) طفلاً من إحدى الحكايات، سماه آثر، وقال إنه مولود خارج الزمن. لم يعتبره ابناً، ولم يصر له أباً أيضاً، أي لم يتحول إلى تمثال ضخم ومخيف. فآثر يناديه بكل ندبة “حسين” ولا يقول له “بابا”:
حسين، من كب التراب على الجبل؟
الأرنب، ومن غير الأرنب يكب التراب على الجبل؟
لكن الجبل قد مرض بالسرطان، فعاد حسين وآثر وبترا إلى قريته في رام الله، التي نفى نفسه منها في الماضي، وأعاد نفي نفسه إليها. عاد، وقال: “إلى جبال الطفولة المقمرة، إلى الجمال الذي سبق وخنته، رجعة غير محكمة”.
خرجت من المستشفى، يحكي حسين: “وفجأة وضعت رأسي على عرق صنوبرة في الشارع وانفجرت في بكاء مُرّ”.
لكن حسين لا يرغب أن يكونه آثر، فحينها سيكون مصاباً بالسّرطان، فيظل حسين حسيناً، ويموت، قائلاً لابنه آثر: “إن زرتني، فسأكون بين اللوز”
وما بين رغبته في أن يذهب إلى البحر لينتحر غرقاً، حين شك الطبيب بداية بإصابته بفيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، قبل أن يبشره بإصابته بالسرطان بدلاً من ذلك، وما بين صوت آثر وهو يمد يده إليه ويقول له: “حسين، خذ علاء الدين، ضعه في جيبك، فالدنيا برد”.
“لكن البحر يعيد الجثث إلى الشاطئ، وسيعثرون عليّ”، يقول حسين.
“نعم، نعم!”، يقول حسين أيضاً حين يسأله آثر: “هل علاء الدين في جيبك؟ هل يشعر بالدفء؟”.
كان لدي شعور بأنني وآثر نعرف بعضنا في حياة سابقة، وتخيلت بأن روح آثر وروحي كانتا تعرفان بعضهما بعضاً منذ الأزمنة الكنعانية، وكانتا هناك تقيمان بين الرعاة “في أرض الغزالة والأرجوان، ثم هاما في الزمن، حتى حل أحدهما في جسمي، وأما الروح الأخرى، روحه، فقد ظل يسكن في المغائر والآفاق، ويراقبني، حتى حان موعد تجسده هو الآخر، فهتف بي من الشق أن سمّه: آثر”.
وهكذا تواصل الأب مع طفله، ضيفين، وروحين، صديقين، أحدهما جاء عبر الآخر لا غير. ووجود آثر في حياة حسين، كان البدء في مواجهة النهاية، التي قال حسين إنه لا يجيد التعامل معها.
“حسين، هنا بيت نمل، ارقص، ارقص!”
ورقصت، كنت وكأنني أتعلم الانتباه إلى التفاصيل الصغيرة (فالله في التفاصيل)، من هذه الروح الكبرى، التي تنطق فيه.
وعلى الرغم ما امتازت به علاقة حسين وآثر، بالندية، فإن الأبوة الإنسانية، بوجهها الحامي، والمضحي، يبرز حين يسأل آثر حسين: “ما رأيك أن تصير آثر وأصير حسين؟”.
لكن حسين لا يرغب أن يكونه آثر، فحينها سيكون مصاباً بالسرطان، فيظل حسين حسيناً، ويموت، قائلاً لابنه آثر:” إن زرتني، فسأكون بين اللوز”.
لقراءة المقال الأصلي على رصيف٢٢