الأم والعش البارد وبيت الدمى.
1- عن الأمومة وباريس: أو أمهات الطيور حين ترمي الفرخ الضعيف من العش.
أول مرة شعرت برغبة في الابتعاد عن المنزل، كنت أريد أن أبتعد عن أمي.. كبرت وابتعدت فعلًا عن المنزل، وصرت أذهب إليها في بعض النهارات وأشرب معها الشاي، شيء واحد فقط فعلته لأجلي خلال حياتي ولم تفعل غيره، أرسلت إلي ببعض الأثاث القديم الذي لم تعد تحتاجه في منزلها لأؤثث منزلي، فشكرت وامتننت لأنها فكرت فيّ. لم أعتد أن تفكر الأم في بناتها كشكل عادي وطبيعي من أشكال الأمومة، فكان عليّ منذ نعومة أظافري أن أقوم بكل شيء.
وذات يوم فكرت بالنهار الذي نظرت فيه الأم إليّ ورأت بأنني النسخة السيئة منها، ثم نظرت إلى ابنة أخرى وقررت أنها الابنة الحسنة. وفعلت ما تفعله أمهات الطيور حين ترمي الابن الضعيف والهش من العش ثم تحتفظ فقط بالابن القوي. فعلت ما تفعله القطة حين تتشمم القطط الصغيرة وتقرر أن تترك الذي على وشك أن يموت لوحده.
والأمهات أحيانًا يفعلن ذلك، بعضهن، النرجسيات.
ينجبن طفلًا ويغذين فيه شعورهن بالنرجسية، ثم ينجبن ابنًا ويسقطن عليه كل كراهية يحملنها لأنفسهن. فهن لا ينجبن أبناء بل مرايا، وأمي قررت أن أكون أنا المرآة المتسخة، وبدأت تزرع فيّ ذلك وفي الآخرين. تتعامل مع الأبناء كدمى، كأنها ما تزال في المهد لم تكبر وتلعب بعرائسها، فتحب بعضها وتعاقب بعضها وتكره بعضها.
لكن إحدى العرائس فعلت ما لا يفترض بها فعله، قررت ألا تظل كدمية وأن تتحرك من تلقاء نفسها، وحاولت حتى أن تخرج خارج بيت الدمى وتشق طريقها في العالم، لكن الأم/ الطفلة جعلت بقية الدمى تكره تلك الدمية المبتعدة.
أحيانًا كنت أعود لبيت الدمى ذاك وأشرب مع أمي الشاي، أنظر إليها وأفكر: لقد ابتعدت بالفعل، فلماذا ما زلت أرغب بالابتعاد أكثر فأكثر؟
لكن اليوم في باريس، أقول لنفسي كل يوم: لقد ابتعدت فعلًا، لا يوجد ما هو أبعد من ذلك.
والجيد أني تركت الألم كله في القاهرة، تعاملت معه سنوات وسنوات حتى لم أعد أتألم.
لكن الأم السيئة تورث إما الألم والقسوة، وأنا تركت الألم في بيتي القديم، وأحاول ألا تحل القسوة محله.
الآن لم أعد أريد أن أهرب مرة أخرى
أذكر نفسي بأنه لا يوجد شيء أهرب منه، ولا حتى الألم، فعندما أفكر بالأم، لا أشعر بأي عاطفة، وأدركت أن ما شعرت به في السابق كان الألم، واحتفظت به لأني أسميته حبًا، لكن الآن أحاول فعلًا أن أعرف كيف يبدو الحب.
باريس تغمرني بالمطر، والمطر البارد هذا أدفأ من حضن أمي المتخيل والمُتمنى.
لم أعد أتمناه
أمشي كل يوم
أحتضن نفسي آلاف المرات في اليوم
أتأمل وأغطس في داخل نفسي وأخرج الصدأ كله
وتلك الأم البعيدة ابتعدت جدا
وأفكر مرات: كيف لإنسان ألا يشعر بشيء تجاه أمه التي أنجبته؟ ولم أشعر بالذنب.
قبل سفري لباريس قررت أني أريد الانفصال عنها، قطعت الحبل السري الذي كانت تعيدني إليها من خلاله كلما ركضت بعيدًا.
تسحبني وتحبسني داخل بيت الدمى مجددًا
بيت مصنوع من القسوة ومن عقدة الذنب ومن الكراهية وقتال الدمى التي تحركهم بين بعضهم
لكن انفصلت عنها
وكان سهلًا
فقدت تدربت على ذلك مرات ومرات مع عشاقي السابقين الذين عاملوني مثلها
ومرة بعد مرة بعد مرة
مراتٍ كثيرة من الانفصال عنهم وتكرار الهرب والابتعاد
لم يعد الانفصال صعبًا أو محزنا
عدت إلى المصدر وانفصلت عنه، بسهولة وخفة واعتياد، ولم أشعر بالذنب، وراح غضبي وألمي كله إلى مكان لا أعرفه، وفكرت بأن هذا الألم والغضب لم يكونان لي، كانا للأم، وأنا تركتهما معها.
فقط شعرت بأني دافعت عن نفسي لأول مرة في حياتي، وصرت أستطيع الدفاع عن نفسي بسهولة، ولم أعد أنجذب لعشاق نرجسيين، صرت أعرفهم من النظرة الأولى وأضحك عليهم.
وهأنا أجلس وأمشي في حديقة tuilerais ولا أشعر بحاجة إلى الأم، لا أشعر بحاجة إلى الحب، لا أشعر بالألم.
أستلقي تحت الشمس وأشعر بالدفء والأمان والحرية
ممتلئة بنفسي
ممتلئة بالخير والبهجة وأشعر بهما ينموان في داخلي
وأذكر نفسي: أنا بخير
أنا آمنة
لقد عبرت البحر فعلًا
لقد وصلت فعلًا
وإن جاءت وجلست بجانبي في الحديقة فلن يتغير شيء مما أشعر به
كأنها لم تكن يومًا أمي
نظرت إليها في ليلة سفري وشعرت بأني لم أعرف هذه المرأة
ولم أشعر بشيء جراء ذلك
ذهبت وركبت الطائرة
وكل يوم في الصباح أشعر بأن النهار يقبلني على خدي
وفي الليل
خاصة عندما تمطر
أشعر بأن باريس هي أمي الحقيقية.
2- قصيدة انفصال عاطفي عن الأم:
أود أن أصدق حقًا
أن أمي كانت موجودة دائمًا من أجلي
لكن أظن أن الانفصال بيننا
حدث باكرًا جدًا
ربما حتى
قبل أن أولد
أحيانًا من شدة الانفصال
أستغرب أنني نموت في بطنها
قصائد مثل هذه
ستكون قاسية
إذا ما تخيلتها وهي تقرأها
وأعرف أنها ستفعل حتمًا
لكن أحاول
ألا أشعر بالذنب الشديد
الذي وحمتني به
أنظر للمرآة
وأحيط ذراعيّ بجسدي
وأبكي بمرارة
لأعوضني عن الأحضان المسلوبة
الانفصال بيننا إلى هذا الحد:
لا أعرف ملمس جلد أمي.
أحاول ألا آخذ هذا الأمر بمأخذ شخصي
فبعدما عشت لسنوات وأنا أظن بأن أمي تكرهني بشدة
وحاولت اختلاق الأعذار
قلت: ربما لأني مختلفة كثيرًا عما أرادت أن أكونه
أو ربما لأن تربيتي صعبة وولادتي قاسية
مثلما اعتادت أن تقول
في عيد ميلادي
كل عام
أو ربما حدث هذا التباعد
لأني ولدت مريضة
ولم ترضعني
وعندما عدت للمنزل بعد أشهر
كانت ربما قد نسيت أنها أنجبت أحدًا
أو شيئًا
حملت مرة أخرى وأنا ما زلت في المشفى
رضيعة ومحتضرة
هل كانت تخطط لاستبدالي في حال مت سريعا؟
لكن الآن
مثلما قلت
أحاول ألا أعتبر هذا الأمر شخصيًا
ربما أمي لم تستطع أن تحب أحدًا
ابتداء بنفسها
لم تفتح ذراعيها لاحتضان أحد
وكانت تنكمش سريعًا كلما أحاطها أحد بذراعيه
غالب الظن أنها لم ترد أن تصير أمًا
لكنها وجدت نفسها فجأة أما لست أطفال
وخلال ثلاثين عامًا
أعرف جيدًا أنها اعتبرت هذا الأمر كابوسًا
ربما لذلك كنت أشعر دومًا أن أمي عالقة
في حياة لا تستطيع أن تستيقظ منها
تدور بين الصباح والمساء وستة أطفال
وكومة طويلة من الصمت
وقع هذا الصمت على جلدي كان خادشًا
فرغم أنها أمي
إلا أني لا أعرف عنها شيئًا
وعندما أخبرتني باسمها الخماسي
رددته مرارا حتى حفظته
لأنها قد لا تكرره ثانية
لا تحب أمي الكلام
ولا التلامس
وتتردد كثيرًا قبل أن ترد على صباح الخير
أحيانًا أتساءل
هل أنظر إليها بإجحاف؟
هل يراها إخوتي بشكل مختلف؟
لكن أظن بأن مرايانا جميعًا مُكسّرة
مرة قلت ساخرة لإحدى أخواتي:
كبرت وأنا أظن بأن أمي تكرهني أكثر من الجميع
فقالت: وكذلك ظننت أنا.
وشعرت بشيء من القسوة
أن تُنشيء ستة أطفال
كل واحد منهم
يظن بأن أمه تكرهه أكثر من البقية
أحاول أن أصل إلى جذور هذه الكراهية
التي لم يجرؤ أحد غيري ربما
أن يخرجها إلى السطح
أن يشير إليها ويقول بأنها موجودة
ألا يتجاهل ما يشعر به أو ينكره
وبكل أسف وقسوة
كل شيء فعلته أوصل مشاعري إلى أمي
رغمًا عنها
” هذا ما أشعر به
وهو مؤلم
وحقيقي،
ولا تستطيعين أن تتجاهلينه بعد الان
أو تجبريني على ذلك
أنا شعرت بهذه الكراهية
حتى على عظامي
وما تزال موجودة
هل تريدين أن نتعامل معها؟”
لكن كراهية أمي تضاعفت
وأصبحت ممزوجة باللوم
” ألا تستطيعين مثل البقية
أن تتظاهري بأن كل شيء على ما يرام؟”
لكني لا أستطيع وبكل أسف أن أفعل ذلك
لأني أود أن أستعيد طفلتي
أن أمسح هذه البقع عن قلبي
وأحتضنني طويلًا
وللغرابة
فاحتضاني لنفسي
جعلني أرغب باحتضان أمي أيضًا
فهي أختنا الخامسة
وربما هي مثلنا
طفلة لم يحتضنها أحد.
