وقف عارياً، مثلما ينبغي لظلٍّ أن يكون.
كتبَ: فوزي كريم في مجلة الجريدة بتاريخ الأحد 11-03-2018
وأنا أتصفح الكتب الجديدة في معرض الدار البيضاء، توقفتُ عند عنوان “يخرج مرتجفاً من أعماقه” (دار المتوسط 2018)، لشاعرة اسمها آلاء حسانين (أو شاعر؟)، فالناشر لم يقدم تعريفاً للمؤلف، و”آلاء” يصح على الذكر والأنثى. حتى إن القصائد تتحدث أحياناً كثيرة بلسان فتى لا فتاة.
قرأتُ أبياتاً، ثم فقرات، ثم استسلمتُ لقصائد، لم تترك فرصة لاعتماد معيار نقدي للتقويم. فهذا الصوت الشعري يخرج مرتجفاً، حقاً، من أعماقه، بفعل ألم وخوف يقدحان بي، وبقارئ مثلي، شعلة الألم والخوف الذي صاحب الشعر منذ “جلجامش”. أخذتُ الكتاب بغبطة قارئ وجد شاعراً يخاطبه ويحاوره.
مصمم الغلاف جعل كلمة “مرتجفاً” في العنوان مرتجفة، وحسناً فعل. وإهداء الكتاب إلى “طبيبي النفسي، الذي كان بلا فائدة…”، والإهداء الآخر إلى عصبة من أصدقاء “آلاء” الذين يلوحون كظلال أو أشباح في “غاب الليل”، أو “ليل الروح”. عتمةٌ قد تبدو للعين القاصرة تمتد بين الغلافين، غير أن البصيرة تنعم بإضاءة تولّدها هذه النباهة الشعرية التي لا نفاد لها، تخرج عفوية من ينابيع الألم والخوف التي لا نفاد لها هي الأخرى. إضاءة ألفناها مع شاعر الضعف والأنا الكسيرة. الشاعر الذي “تُلمح خلف ابتسامته عذابات كثيرة”. لذلك، ما من عتمة شعرية في قصيدة الخوف والألم، إذا ما كانا حقيقيين، وصادقين. العتمة الشعرية يولدها الهرب من المعترك الداخلي إلى المعترك مع الآخر، إلى اللعب اللغوي، إلى الأنا المتورمة.
وقد تبدو ارتجافة الألم والخوف، منذ الوهلة الأولى، ذات جذور سيكولوجية، إذ ثمة أكثر من إشارة إلى طفولة مُغتَصبة، مقموعة، أو ضحية إغفال، وأكثر من إشارة إلى رغبة بالانتحار، أو محاولة له: “رأيتُ الغزلان وهي تنتحر في عينيه/ وراقبت معصمه وهو ينزف في الرواق البارد/ وحين رفعتُ جسدي بصعوبة؛ لأشير إليه/ سألته عن شكل جنازته/ فهمس بأنه يريد أن ينزف حتى يموت/ حتى تذهب اللحظات التعيسة كلها بعيداً…” (ص79)، وإلى مخاطبة النفس كظل لجثة “في القبر الرخامي”، أو كظل “لا يذكر أيَّ شيء كانَه” من قبل: “وقف أمام المرآة عارياً… عارياً تماماً، مثلما ينبغي لظل أن يكون/ أخذ يقلد الأشياءَ كلها…/ صار كرسياً، وقال: لا أذكر رائحة الخشب القديم… لم أكنْه./ صار مشجباً وأخذت المعاطف تتدلى من رقبته./ صار باباً، وأخذ يُغلَق كلَّ حين، دون أسباب واضحة…/ صار ستائر لا تمنع الليل من التدفّق…/ صار ليلاً يهبط الدرجَ ويختفي في العتمة،/ جرّب الأشياء كلها، وقال: لا… لمْ أكنْها”. (راجع القصيدتين المكتنزتين ص 13 و81). ما من مناشَدة أو استعانة أو تطلّع إلى أفق مضاء. حتى العصبة الوفيرة من الأصدقاء إنما تُحيط به كأشباح راحلين، والحب بينهم لا ينتسب لزمننا هذا.
أقول رغم هذا الجذر السيكولوجي، الذي يُفترض أن يكون مرضياً، فالصوت الشعري يتعالى على جذره، ويتعافى، ليُصبح رؤيا، ويتسع بعيداً عن جذره، ليصبح احتضاناً. إنه يذكّر بصوت الأميركي أدﮔار آلن ﭘو. لكن ما إن تحل القطيعة بين هذا الصوت الشعري وبين جذره الداخلي، جذر الألم والخوف، حتى تأخذ النصوص بالترهل، لتصبح مشارَكة مع الهاجس الوطني أو الإنساني العام. وهو هاجس يتماهى مع أكثر الهواجس العامة شيوعاً في شعر المشاركة الجماعية تحت الراية الملتزمة. أنظر قصيدة “أيتها الثورة” (165)، أو “دائماً هناك وقت” (170)، “حتى لا نظهر كندبة على جبين العالم…” (ص17)، ومثيلاتها. قارئ آلاء سيفتقد، في هذه القصائد، تلك “النُدرة” الشعرية، الطالعة من ندرة الخبرة الداخلية التي احتفى بها في قصائدها عامة.
المجموعة في 300 صفحة، تضم 52 نصاً من قصائد النثر، مبوَّبة على ستة أقسام. كنت أود لو لم تلتزم الشاعرة بتفتيت الفقرة في القصيدة إلى أبيات بالغة القصر، أحياناً، دون ضرورة واضحة، إلا المتعة البصرية التي هي متعة إيهامية، كما يفعل جميع مَن يكتب قصيدة النثر هذه الأيام، فتبدو الأنفاس متقطعة.
https://www.aljarida.com/articles/1520699044306201100/?previous=2018-03-11