تمهيد: اليومي المحتوى
تبدأ الحكاية من عند البحر. الموج يتكسر بعنف على الصخور، والكاميرا تقترب عبر لقطات متتابعة، بينما أسماء الممثلين تلمع بخط
متكلّف مهيب على الشاشة، تصحبها موسيقى أوركسترالية صاخبة، آتية من خارج العالم الفيلمي، تفرض حضورها فرضاً. شيئاً
فشيئاً يتناغم المونتاج مع الإيقاع، حتى يتزامن القطع مع بروز العنوان على الشاشة.
إنه مشهد لا يصف الطبيعة بقدر ما يستدعي صورة مألوفة من المخيال الرومانسي: الحب بوصفه عاصفة، شغفاً لا يهدأ.
بهذه الافتتاحية يهيّئ فريتز لانغ، في فيلمه Clash by Night (1952)، جمهوره لاستقبال دراما عن الحب والخيانة، محمّلة
بالعاطفة والانفعال. لكن المفارقة سرعان ما تتجلّى: فالمشهد التالي لا ينتمي إلى الميلودراما، بل إلى شيء مختلف تماماً. لا صخب،
لا عاطفة، بل لقطات أقرب إلى الوثائقي، ترصد الصيادين وهم يفرغون حصيلة الصباح، والعاملات وهنّ يستقبلن الأسماك في
معمل التعليب. هنا لا أبطال ولا بطلات، بل أيادٍ تنهمك في العمل، جسد جماعي بلا ملامح فردية. حتى “بيغي” (مارلين مونرو)،
التي يلمع حضورها للحظة، سرعان ما تُذوَّب في الجماعة: فهي عاملة، وموقعها الاجتماعي يحجب عنها الدخول في “القصة” قبل
أن ينتهي دوام العمل.
هذه البداية تكاد تختصر تاريخ السينما نفسها: فمنذ صورها الأولى – العمال الخارجين من المصنع – بدا أن الحكاية لا تُمنَح لهم إلا
في لحظة التحرر من دائرة العمل. عند المساء، حين تلتقي بيغي بحبيبها، تتابعها الكاميرا وتبدأ الحكاية العاطفية فعلاً. أما تفاصيل
العمل وظروفه، فسرعان ما تُطوى، وكأنها لم تكن.
ما يفعله لانغ هنا هو وضع شاعريتين متناقضتين جنباً إلى جنب: الميلودراما المفعمة بالعاطفة من جهة، والواقعية الوثائقية من جهة
أخرى، ثم جعل كل منهما تقصي الأخرى. كأن السينما، في بنيتها السردية، غير قادرة على الجمع بين الاثنين معاً: الاجتماعي
والسياسي من ناحية، والقصصي الدرامي من ناحية أخرى. وغالباً ما ينتهي الأمر باليومي في الأفلام إلى مجرد خلفية أو “ديكور”
افتتاحي، يُستدعى لتهيئة المشهد قبل انطلاق الحدث الاستثنائي الذي يصنع الدراما.
لكن يبقى السؤال: هل يمكن لليومي أن يظل مجرد خلفية محايدة؟ أم أن له، في ذاته، قدرة على أن يكون سياسياً، مقاوماً، وأن يزلزل
البنية الاجتماعية التي يحتويها؟ هذا هو السؤال الذي يسعى المقال إلى تفكيكه من خلال ثلاث زوايا رئيسية:
● اللحظة الكثيفة: حين يختصر فعل عادي بسيط كل عنف الواقع، ويكثّف في داخله طاقته السياسية.
● اليومي كفعل انسحاب أو مقاومة: عندما يتحوّل الانغماس في تفاصيل الحياة العادية إلى موقف سياسي قائم بذاته.
● قوة التفاهة: حين تتحوّل “تفاهة” اليومي، دون أي محاولة لتفسيرها أو تحميلها معنى إضافيًا، إلى فعل مساواة جمالي
وسياسي.
الحركة الأولى: اللحظات الكثيفة.
للوهلة الأولى، يبدو اليومي عالماً بلا أحداث. مجرد رتابة متكرّرة: استيقاظ، عمل، طعام، نوم. وإذا كان الاستثنائي هو ما يقتحم
السياق، فإن اليومي هو ما يعيد إنتاج ذاته بلا انقطاع. غير أن غياب الحدث لا يعني بالضرورة غياب المعنى. فكما يقول جورج
بيريك: الفضيحة ليست في انفجار منجم الغاز، بل في العمل داخله، في البنية اليومية التي تجعل الانفجار ممكناً ومأساوياً.
من هنا، بدأت السوسيولوجيا الماركسية والنسوية وما بعد الكولونيالية ترى في اليومي موقعاً محورياً لفهم آليات السلطة. ففي أبسط
تفاصيل العيش – إعداد الطعام، تقسيم الأدوار، تنظيم الوقت – تتجلّى علاقات القوة وتترسّخ. لكن يبقى السؤال: كيف تستطيع السينما أن تلتقط هذا كله؟
المعضلة أن السينما، بطبيعتها، تميل إلى تحويل كل ما تصوره إلى حدث. حتى أكثر الحركات بساطة تصبح لافتة على الشاشة.
ولأن الفيلم ليس تكراراً زمنياً، بل سلسلة من لقطات متتابعة، فإن تمثيل التكرار البنيوي لليومي يصبح تحدّياً أساسياً.
هنا يكتسب مفهوم بريشت عن “الإيماءة الاجتماعية” أهميته: الفعل الفردي لا يعود مجرد حركة عابرة، بل تكثيف لموقف اجتماعي
بأكمله. خذ مثلاً: اللقمة التي يلتهمها كومبارس جائع في La Ricotta لباسوليني، أو يأس العاملات في Sur la planche لليلى
الكيلاني وهن يحاولن عبثاً محو رائحة الجمبري من أجسادهن، أو ارتباك الأب في Parasite وهو يخشى انكشاف رائحته…
جميعها إيماءات صغيرة، لكنها تكفي لتكشف علاقة عنيفة ببنية اجتماعية كاملة.
هذه الإيماءة هي ما سمّاه رولان بارت “اللحظة الكثيفة”: لحظة عادية في ظاهرها، لكنها تحمل في طياتها تاريخاً من القهر، ووعداً
بانفجار قادم. مشهد تمزيق الفلاحة مارفا لتنورتها كي تصلح الجرار في فيلم آيزنشتاين ليس مجرد فعل عملي، بل تكثيف لعلاقة
الطبقة العاملة بوسائل إنتاجها، ولتضحياتها اليومية، ولتقسيمات الجنس والأدوار المفروضة اجتماعياً.
إنها لحظات لا تحتاج إلى حدث استثنائي كي تصبح سياسية. يكفي أن تُرى كجزء من نسيج العادي، وأن تُقرأ كإيماءات مشحونة في
آن بالعنف والتمرّد.
الحركة الثانية: انسحاب أم مقاومة؟
لكن ماذا عن السينما التي تذهب أبعد من مجرد التقاط لحظة استثنائية وسط العادي، لتجعل من اليومي ذاته مادة الفيلم؟ أليس في ذلك خطر الانسحاب من السياسة، والاكتفاء بتكرار الروتين، وربما الوقوع في شَرَك التواطؤ؟
يذكّرنا برنار آسب بتحذيره الشهير: «لن نقبل بعد اليوم أن يُقال لنا إن الهروب ثوري». فالفن، والأحلام، والبطالة الطوعية، والعناية
بالذات… قد تتحول جميعها إلى أشكال انسحاب من ساحة الصراع. لكن السينما تكشف أن الصورة ليست بهذه البساطة.
لنأخذ مثالاً: فيلم La Cecilia (1975) لجان-لويس كوميولي، الذي يروي قصة مستعمرة فوضوية إيطالية هاجرت إلى البرازيل
هرباً من علاقات السلطة. السرد فيه مفكك، اللقطات طويلة، والإيقاع بطيء، حتى يبدو أن الفيلم يعيش يوميات المستعمرة: الطعام،
الموسيقى، النقاشات النظرية. للوهلة الأولى يبدو الأمر وكأنه يوتوبيا هاربة من التاريخ. لكن التفاصيل تكشف مقاومات دقيقة: صفعة
أب لابنه، نبرة كاهن تتسرب خلسة إلى قراءة نص ماركسي، لمسة حنان عائلية داخل جماعة تزعم أنها ألغت مؤسسة الأسرة. هنا
تتحول الشعارات المعلّقة على الجدران («لا آلهة ولا أسياد») إلى خطاب موجَّه إلينا نحن المشاهدين، أشبه بدعوة لمساءلة أنفسنا.
بمعنى آخر: حتى “الهروب” حين يُمثَّل على الشاشة لا يبقى انسحاباً، بل يصبح فعلاً سياسياً لأنه يكتسب رؤية ويُعرض للنقاش.
السينما تعطيه شكلاً مرئياً، وتعيد إدخاله في المجال العام.
الأمر ذاته يتكرر في فيلم La classe operaia va in paradiso (1971) لإيليو بيتري. في الظاهر يبدو الفيلم عن انتصار
نقابي، لكن عودة العامل المصاب إلى خط الإنتاج لا تعني سوى عودة إلى نقطة الصفر. حتى الحلم الذي يرويه لولّو لرفاقه – حلم
دخول الجنة بالقوة – قد يُقرأ كهروب من الواقع. غير أن قراءته من منظور الحياة اليومية تكشف بعداً آخر: إنه ما سمّاه جيمس
سكوت “النص الخفي” – تبادلات سرية وسرديات مقاومة تغذي الفعل العلني. يصبح الحلم هنا أداة لتعزيز التضامن، ولتحويل السرد
إلى طاقة جماعية.
إن اليومي لا يقف على هامش السياسة، بل يعيد باستمرار توسيع حدودها. فعندما يصوّر آلان رينيه في Muriel (1963) تفاصيل
رتيبة للحياة الفرنسية بعد حرب الجزائر، فإنه لا يخفي السياسة بل يكشفها: وراء الموائد المألوفة والزيارات العائلية تطفو ذاكرة التعذيب، وصور الجنود في أنشطتهم “البريئة” تفضح الأيديولوجيا التي جعلت العنف ممكناً. هكذا يصبح اليومي ليس مجرد ستار
يخفي التواطؤ، بل النسيج الذي يُبنى عليه هذا التواطؤ الجماعي.
الحركة الثالثة: إذا كان ثمة ما هو تافه.
لكن ماذا لو قلبنا المنطق رأساً على عقب؟ ليس فقط أن نبحث في اليومي عمّا هو سياسي، بل أن نقبل تفاهته، أو عدم دلالته
الظاهرة، ونعتبر أن هذه التفاهة بالذات فعل سياسي.
هذا ما يقترحه بيير ماشيري: حتى ما يبدو بلا معنى يحمل في داخله شحنة كامنة. هنا نتجاوز الثنائية بين “العادي” و“المهم”، ونقول
إن مجرد حضور العادي في العمل الفني هو إعلان مساواة.
جيل دولوز وجد في الواقعية الجديدة الإيطالية مثالاً بارزاً لذلك. في فيلم Umberto D. (1952) نرى مشهد استيقاظ الخادمة.
أفعال بسيطة متكررة: إشعال الغاز، طحن القهوة، النظر من النافذة. لا شيء استثنائي. ثم، فجأة، نظرة خاطفة إلى بطنها، خوفاً من
حمل غير مرغوب فيه. عندها يتحوّل الروتين العابر إلى كشف عن هاوية اجتماعية: خطر الطرد، الفقر، الانحدار الطبقي.
بالنسبة لدولوز، تكمن الأهمية في أن اليومي، بطبيعته الآلية، مهيأ في كل لحظة لأن ينفجر، أن يكشف هشاشته الفجّة. غير أن
مشكلته أنه كثيراً ما يحوّل هذه اللحظة إلى تجربة رؤيوية تتجاوز السياسة المباشرة: إلى فلسفة زمن أكثر مما هي نداء للنضال.
هنا يتدخل جاك رانسيير ليعيد التوازن. فالعادي عنده ليس مجرد شرط لظهور الرؤيا، بل هو فعل مساواة جمالية: التفاصيل التافهة
(كالبَارومتر عند فلوبير) تعلن أن لا شيء أهم من شيء آخر، وأن الأدب والسينما يضعان كل العناصر على مستوى واحد. وهذا
الفعل، بحد ذاته، سياسي لأنه يزعزع تراتبيات المعنى التي تفرضها السلطة.
لهذا قرأ رانسيير دزيغا فيرتوف (Dziga Vertov) باعتباره شيوعياً جمالياً لا فقط أيديولوجياً: المساواة بين حركة العامل وإيقاع
الآلة. ورأى في بيدرو كوستا (Pedro Costa) في فيلم En avant, jeunesse! مثالاً لفن يضع مأساة تاريخية كبرى على
المستوى نفسه مع حوار عابر في حانة.
تلك هي قوة التفاهة: أن تقول للسلطة التي تُفرز وتُرتّب إن كل شيء متساوٍ. أن تمنح الضوء لحوار عابر بقدر ما تمنحه لحدث جلل.
خاتمة: شرخ في النظام الإنتاجي.
لم يعد اليومي مجرد روتين متكرر، بل غدا ميداناً للصراع. فمع صعود النيوليبرالية، تحوّل الزمن نفسه إلى سلعة، وصار الفرد
مطالباً بأن يعيش كأنه مشروع اقتصادي دائم. إنّه ما سمّاه جوناثان كراري: «هجوم على الحياة اليومية».
في هذا السياق، يصبح الدفاع عن العادي، عن الزمن الهادئ المكرَّر، فعلاً سياسياً بامتياز. والسينما، بما تملكه من حساسية تجاه
التفاصيل، قادرة على لعب هذا الدور: أن تلتقط لحظة تافهة وتحوّلها إلى كسر في منطق الإنتاج، إلى تذكير بأن الإنسان ليس آلة،
ولا مشروعاً اقتصادياً بلا نهاية.
لطالما عرفت السينما كيف تشحن الأفعال الصغيرة بطاقة احتجاجية: نظرة، حركة، أو حتى تفصيلة عابرة. ومن خلالها رفعت
التفاهة إلى مرتبة الفعل السياسي، وجعلتها شرخاً في بنية النظام الإنتاجي. واليوم، في زمن يُطلب فيه منّا أن نحسّن كل خطوة وأن
نستثمر كل ثانية، يمكن للسينما أن تعيد إلينا درساً بسيطاً وعميقاً في آن: أن العادي، بصفائه وتفاهته، قد يكون أجمل أشكال المقاومة.
عن الكاتب:
رافاييل جودون: باحث ومحاضر فرنسي في علوم السينما بجامعة كان نورماندي. تتوزع أعماله بين جماليات الفيلم، السينما
السياسية، وتحليل الصورة. صدر له مؤخرًا كتاب السينمات السياسية: قراءة جمالية (2024)، وشارك في أعمال جماعية مثل جاك
رانسيير والفنون: جماليات المساواة.