عن المنازل، والطفولة، والحساسية الشديدة.
لا أعرف من أين أبدأ،
وفي كل مرة أقول بأني
سأكتب قصيدة فاشلة.
لكن أستاذي قال لي اليوم بأني شديدة الحساسية،
لذا قررت أن اكتب قصيدة ربما تكون رديئة،
عن كوني شديدة الحساسية.
أتساءل من أين بدأ كل شيء؟
هل ولدت بهذا الأمر؟
بكوني أحب ملمس أوراق الشجر
وصوت الرياح التي أظنها نحيبًا
وأبكي عندما تكون الأشجار عارية.
يزعجني الشتاء،
ليس لأني لا أحب البرودة
بل ربما لأن الشتاء يجعلني
في غاية الحزن.
هذا بالإضافة لكوني شديدة الحساسية
أبكي لأشياء لا يفترض أن تكون
مدعاة للبكاء،
وأحزن عندما لا يستدعي شيء ذلك.
كتبت مرة عن الأوراق المتساقطة
وعن ظني بأنها تقول لي: مرحبا
حينما تمر برقة فوق كتفي.
عن الحمام الذي يمشي على الرصيف
وخجلي من المرور بجانبه حتى لا أخيفه
عن اعتقادي بأني حمامة أيضًا
ضلت طريقها إلى عالم البشر.
لكني أعتقد أيضًا أن الحياة لا تناسبني
أن الأشياء في غاية القسوة
وأن امي التي لم تقصد أن تجرحني
تسببت بهجرتي بعيدًا
عن قلبي المليء بالخدوش
التي كانت كلماتٍ
قالها أصدقاء دون أن يقصدوا.
عن جلدي الحساس أيضًا
الذي يترك ندوبًا واضحة
تزداد تضخمًا
من آثار الجروح القديمة
كل شيء يمكن أن يكون جارحًا،
أول رجل أحببته تركني
دون أن يفسر أسباب ذلك.
لم أتجاوز هذا الترك يومًا،
ظللت أبحث عنه في كل الوجوه
أبحث عنه في الآخرين
في المرايا
في الكلمات التي تدل عليه.
الآن بعد مرور سبع سنوات
ما زلت أبكي من حين لآخر
لأن رحيله كان فاجعًا،
وعلى الرغم من كل شيء
ما زلت لم أتخلص تمامًا من حبه
إنه مختبئ في إحدى زوايا قلبي
بانتظار شيء ما
كلمة مثلًا أو إشارة
حتى يظهر مرة أخرى.
أحيانًا أقول بأني أحببت فكرة
أكثر مما أحببت شخصا
لكن الأفكار لا تبقى على حالها،
الأفكار تتغير
الناس يتغيرون،
أنا تغيرت مرات عديدة
عرفت رجالًا آخرين
وما زلت احب الشخص نفسه.
كان يحدثني كثيرًا عن طفولته
على الرغم من أنه لم يعد طفلًا منذ زمن بعيد
لكن الأشياء ما تزال عالقة
وأظن بأن الطفولة هي هوية المرء.
أنا أيضًا ما زلت أتحدث كثيرًا عن طفولتي
فمن جهتي، تبدو الأشياء عالقة أيضًا.
نحن ننتمي إلى طفولتنا في نهاية الأمر.
أتوقف في منتصف القصيدة،
كمن تعثر بحجر ما،
لا أريد أن اكتب عن الرجل الذي أحببت
أو عن طفولتي
أو عن أمي التي أحبها للغاية
لكنها لم تكن أمًا في غاية الحنان
هل لهذا السبب كبرت
لأصبح امرأة هشة وحساسة؟
لكني كنت كذلك دومًا،
أتذكر أول يوم دراسي لي،
أحضرتني أمي إلى المدرسة
ثم نظرتُ للخلف وكانت قد غادرت سريعًا
ظللت لسنوات عديدة مجروحة
لأن أمي لم تلوّح لي،
لم تلتف لي وتقول: وداعًا
كانت قد اختفت وحسب.
هذا ما يبدو عليه أن تكون شديد الحساسية
تجرحك الأشياء العابرة
والآخرين الذين لا يلقون بالًا لكلماتهم
يجرحك حتى الضحك على النكات التي لا تفهمها
تجرحك اللمسة إن كانت غير صديقة
ويجرحك حتى السلام باليد
على الذين لا تحبهم.
ماذا سأفعل الآن
بعد كل هذا؟
فكرت بهذا الأمر سلفًا
قلت: ربما إن تحولت لشخص صامت
لن يعرف أحد بأني شديدة الحساسية
وبالتالي، ربما سأحمي نفسي
سأتظاهر بأني لا مبالية وحسب.
لكن الأستاذ قال لي بأني شديدة الحساسية
على الرغم من كل الطبقات التي وضعتها لأخفي هذا الأمر
على الرغم من أني لا أقول شيئًا
أخفي ولعي بالأزهار
أخفي انصاتي العميق للكون
الذي أظنه يتكلم أيضًا
يثور ويغضب
يسعد ويحزن.
مرة أهداني أحد أصدقائي في القاهرة
كتاب الأمير الصغير
قرأته في الباص المتجه للاسكندرية
حيث كنت أزورها للمرة الأولى في حياتي
مثلما يعرف الجميع
فعلت أشياء كثيرة للمرة الأولى
حينما تجاوزت العشرين
رأيت البحر للمرة الأولى مثلًا
مشيت حافية على الرمل
وأحسست بجسدي
صار أكثر ألفة
على كل حال،
عندما قرأت الأمير الصغير
ظننته أنا.
لكن شعري أسود
وعيني بنية
والأمير الصغير له منزل
في مكان ما
له كوكب بأكمله
له زهرة جميلة
يغطيها من الرياح
حتى لا يتم اقتلاعها.
على العكس من ذلك
ليس لي منزل في أي مكان.
يقال بأن منزل المرء
هو مكان طفولته
لكن طفولتي منزل لا أود الرجوع إليه.
أنا غير ناقمة على شيء،
سامحت والديّ
شكرتهما على العناية بي
وهاجرت بعيدَا.
قلت: هذا يكفي
ثم حملت حقيبة واحدة
حقيبة على ظهري
وسافرت إلى مكان
لا يوجد فيه شيء مألوف.
الهواء مختلف،
لون السحاب مختلف
السماء نقية حتى أنك تستطيع رؤية الغيوم
وكأنها لوحة مرسومة.
قلت: واو، سأنشئ منزلًا هنا
أو هنا
أو هناك.
لكن محاولاتي ما تزال غير مجدية،
لذلك اقتصر الأمر على وجود مكان للنوم.
مكان دافئ،
على الرغم من الرياح غير الأليفة
التي تنتحب في الخارج.
وعلى الرغم أيضًا من كون هذا المكان
بعيد للغاية عن أمي
عن طفولتي
وعن المنزل الذي كبرت فيه.
تبدو الطفولة كفكرة إذا لاحظت
تبدو شبحًا يخرج من تحت السرير
ويبدأ بملاحقتنا.
تبدو مثل كل الأفكار
التي لا أقولها أثناء الحياة
أو حتى أثناء الكتابة.
لماذا أكتب إذن؟
في البداية كتبت لأني لا أريد أن أنتحر
ثم كتبتُ لأني كنت حزينة للغاية،
لا أقول بأني هذا انتهى الآن
أعني الحزن،
ما يزال موجودًا بالطبع
لكني لا أريد الحديث عنه.
أما الآن فأنا أكتب لسبب مختلف،
مثلًا: أكتب لأني أريد من الرجل الذي أحبه
أن يقول لي: أنت رائعة
على الرغم من اني أكتب بلغة لا يفهمها
وعلى الرغم من أن هناك مستحيلات كثيرة
تمنعنا من أن نكون معًا
لكني أكتفي بذلك:
أن يعلق على قصيدتي
ويقول: إنه شعر جميل
عميق، ومانخوليك.
ثم أستعد للنوم
وأنا لا أعرف ما الذي أفعله بأيامي،
أعرف أيضًا بأني لن أرسل إليه هذه القصيدة
ربما لأنها قد تكون رديئة للغاية
مثلما أظن،
أو ربما لأني لا أرغب بأن أؤكد له
بأني شديدة الحساسية.
لكنه يوم آخر
يوم جديد وحسب
أنجح فيه بأن أبعد ذكرى البحر عني
ذكرى حياتي السابقة
التي أقول بأن كل الأمور
ابتدأت منها.
ربما لهذا السبب
أتطبع بهذا الطبع،
طبع الحساسية الشديدة.
لأني أحمل أكثر مما يحمله إنسان
لأن روحي عانت
لأن روحي صاحية
تدرك هذا الألم
وتدرك منبعه
وتدرك أن أحدًا لن يصدقني.
يعود الناس إلى طفولاتهم
ليجدوا سببًا لآلامهم
لحساسيتهم المفرطة إن اعتبرنا هذا مرضًا
أما أنا فعليّ أن أعود لحياة سابقة
حياة كاملة
ولا أعرف من أين أبدأ الأمر.
كل ما أعرفه في هذه اللحظة
أني أحب شخصًا يستحيل أن يغرم بي
وأني أريد أن أنام.
29 نوفمبر 2024