| |

شخص يعثر على شخص آخر ويمسك بيده – ٢٠١٤


الليلة الواحدة والعشرون من نوفمبر، الساعة العاشرة والنصف مساء. إلى صديقي الذي يعرف كل ما أريد قوله مسبقا.. أكتب إليك على سبيل الضجر، الجو هنا بارد جدا، الهواء يدغدغ جلدي كأنه ضحكة طفل صغير، السماء شاسعة ومريعة، دائما أصاب بالذعر حين أنظر إليها، لكنني أحبها قليلا فقط، ربما لأنها تسدل ليلها على كتفي كعباءة، لا تدفئني. لكنها ربما تفعل ذلك من باب الواجب. أنت تعرف، لا أمهات للغرباء، السماء ربما تحاول تعويض ذلك، لكنني عوضا عن ذلك اشعر بالمزيد من اليتم حين تحاول أن تحاول تعويضي، أشعر بالضجر من هذا المكان، لقد فقدت مقدرتي على الحزن، لم أكن أعرف أي إمرئ يملك قدرة مريعة على الحزن كما كنت أملك، لقد كان ثروتي، الحزن الصراخ والعواء، تخيل أنني ما عدت استطيع أن أئن، لقد سحبوا صوتي من حنجرتي، يداي مكبلتان يا عزيزي، أو انهما ليستا مكبلتين تماما، إنهما ميتتان، بإمكانك ان تتأكد من ذلك إن شئت، تعال يا عزيزي وإرفع يدي إلى السماء كأنها يدك، ثم انزع يدك، ستهوي يدي مثل حجارة تنتحر، لا اشعر بشيء، هناك العديد من الاشياء التي من المفترض ان يشعر أي شخص بالحزن تجاهها، لكنني لا اشعر بشيء، لقد كسروني يا عزيزي، لقد نشروني بالمناشير، أصدقائي، أصدقائي جعلوني جذعا وصنعوا مني أبوبا وعتبات وشبابيك، لقد جعلوا مني حتى فؤوسا تضرب خصري، يدي، إنظر إليهما، إنهما منشاران، اصدقائي جعلوا من يداي منشاران،
لقد جعلوا مني حتى أحذية وأورقا يكتبون فيها الرسائل لبعضهم ويشتمونني فيها،
إنني لا أبك. بإمكانك سماع صوتي، إنني لا أئن حتى، لا اقدر على ذلك، أذكر أنني ظللت لليال وليال انتحب كغيمة حزينة، لكنني استيقظت ذات صباح وكنت قد تلاشيت تماما، هذا حزين. لا أحب أن أتلاشى، أفضل أن أبقى حتى لو لم أفعل شيئا غير أن أبكي.
إنني حساسة جدا تجاهك. لا أعرف، لكن هذا يحصل دائما، تشعر بالحزن فأحس بجمر في قلبي، تصرخ من هول اليأس فأسمع في حنجرتي نحيبا، ذات ليلة حين صرخت ” يارب ” شعرت بعيني تشخصان نحو السماء،
ربما تتساءل كيف املك كل هذا الإندفاع؟ كيف أكتب إليك بسلاسة هكذا كأنني أكتب إلى صديق قديم رغم أننا بالكاد نعرف بعضنا؟، إنني أشعر بالفعل وكأنني أكتب إلى صديق قديم،
لقد توقفت عن الندم مذ توقفت عن الخوف، هكذا فقط، لا اعرف كيف حدث ذلك لكنه قد حدث. لقد توقفت عن الشعور.
أحس بأطرافي تتفتت كأنها أغصان ميتة، إنني بالية يا عزيزي، قلبي قطعة قماش اتلفتها الشمس.
منذ عدة أشهر كنت قد قررت أن أموت، كنت أصرخ وأصرخ في داخلي، لقد كان صوت البكاء يثير جنوني، كان على وشك ان يصيبني بالصمم، إنني أتذكر كل ذلك الآن وكإنني ميت يتذكر ويقول: لقد كانت أياما مريعة، من الجيد أنها مضت.
ربما كنت ساقول ذلك لو كنت قد قتلت نفسي فعلا، لكنني وياللأسف ليس بوسعي سوى أن أقول: إنها أيام مريعة لا أعرف كيف ستمضي.
حينها كنت أريد أن أحدث ضجة حين أموت، لقد كانت طريقتي الوحيدة المتبقية للإحتجاج. لم يكن للإنتحار هدف سوى أنني كنت أريد أن أعاقب من حولي، كنت اريدهم ان يتأذوا، كنت اريدهم أن يشعروا بي يا عزيزي وحسب.
أما الآن، تعرف! لا يهمني أن يشعر بي أحد، لا يهمني أن يحبني أي أحد في هذا العالم، لا يهمني شيء، لا أنقم على أحد لا أريد أن انتقم من أحد و لا أشعر بالكراهية تجاه أحد، لقد توقفت عن الشعور بأي شيء تجاه أي أحد.
إنني أستيقظ كل صباح – ولا يهمني إن استيقظت او لم أفعل – وأنظر للعالم بعينين شبه مغمضتين، لا يوجد ما يدهشني على الإطلاق، أشعر كأنني خرجت لتوي إلى عالم أعرفه جيدا، كإني عدت إلى حياة عشتها مرارا، أنا أعيش تكراري، إنني شخص ميت في مكان آخر.
لا اريد شيئا من هذا العالم، لا اريد حتى أن يتعذب أحد بموتي، وإن كنت أريد ان أموت فانا سأنصرف إلى موتي بهدوء، كأن أبتلع حبوبا منومة ليلا ثم أغيب للأبد، أتمنى ان يظن الجميع حولي أنها موتة طبيعية، لا أريد أن يشعر أحد بالذنب تجاهي.
فيما مضى كنت أتمنى لو كنت كوكبا وبدلا من أن أموت بسلام كنت سأنفجر وسأخرج من هذا العالم معلنة غضبي كما يخرج اي إنسان معلنا غضبه كأن يصفق الباب خلفه ويمضي، أما الآن فأنا أشكر الله وأقبل قدميه لإنني لست كوكبا، لا أريد أن أخرج معلنة غضبي، لا أحب أن يخرج احد معلنا غضبه.
أتمنى ان أموت ذات شتاء في ليلة هادئة ودافئة، لا أريد جنازة، لا أريد ان يبكيني أحد. آخ! أتمنى لو أنني لم أعرف أي أحد في هذا العالم، لا أريد أن يتذكرني أحد، لا أريد أن يزور أحد قبري دائما، لا أريد أن يستيقظ أبله من النوم ليلا مثلي لاجل أن يكتب إلى ميت ويبكي، ميت غارق في موته، هناك أموات أحياء بعض الشيء، يعرجون على أحبتهم في أحلامهم كل حين مثلا، أما أنا فسأكون ميتة تماما، تأكد من ذلك.
لقد أحببت هذا العالم، لقد أحببته حقا من كل قلبي، إنه عالم جميل، لكن ليس فيه مكان لي، لم يكن لنا أي مكان فيه أبدا، إنه جميل، وهذا مايجعلني أشعر بالحزن كون أننا لا نمتلك مكانا في عالم جميل كهذا، إننا نشعر بالحزن، لا احد يشعر بالحزن تجاه شيء سيء.
أحب الناس، وأشعر بالشفقة عليهم، دائما دائما أحس بشيء من العطف الخفي والحزن الطفيف تجاههم، الحزن الذي يتملك شخصا يعرف الحقيقة وحده، محزن أن تشعر أنك تعلم الحقيقة وحدك، أحب الناس. لكنني لا أشعر بأنني أنتمي لهم أبدا، لا أشعر أن هذه فصيلتي، لا أشعر بما يشعر به نمر تجاه النمور مثلا! أحس أنني شيء اخر كان فيما مضى بشرا،
لا أعرف هل أنا بشر يشعر أنه أصبح شيئا آخر، أم أنني شيء آخر يشعر أنه كان بشرا!
لا أعرف.
إن لي رجاء يا عزيزي، لا أريدك أن تشعر بشيء تجاهي، لا أريد أن تحبني، لا أريد ان يحبني أحد ما، أشعر بالذعر حين يحبني أحد ما.حين قلت سابقا أنك تحبني إجتاحني شعور مروع، لقد كنت مثل غراب يختبيء خلف نافذة وينظر من خلالها، ثم حلق فجأة وصرخ -مثل ميت يحفر أحد قبره ويخترق عزلته- حين اكتشف فجأة أن بإمكان الجميع أن يروه.
لقد كنت دائما شخصا غير مريء، الأمر مروع حين تكون شخصا غير مريء، لكن الأمر الأكثر ترويعا ان أكون شخصا مرئيا بينما أنا أظن غير ذلك.
تخيل ماذا يمكن أن يحدث لي حين ادرك أن لي جسدا بشريا مرئيا وعاديا؟ تخيل ان ألمس شيئا ثم أقول: أوه هذا جسدي! يا إلهي الامر مرعب، أريد ان أقتل نفسي. تخيل أن أشعر بنفسي، ماذا يحصل عندما يشعر إنسان بنفسه؟
يا إلهي! لو شعرت بنفسي يوما فأستخلص مني، أريد أن أعثر على أي جزء مني كي أوسعني ضربا، إنني لا أحبني، لم أحبني يوما. ولم أتمكن يوما من العثور علي، إنني متناثرة في كل مكان، أنا نشارة خشب.
يا إلهي الحليم، اه لو أنك موجود لو أنك موجود! إنني وأقسم بك أتمنى من كل قلبي أن تكون موجودا، يا إلهي الذي أحبه، يا حبيبي يا صديقي يا أخي. أريد أن أتلاشى، أريد أن اذوب كغاز في الفضاء، أريد أن تتشربني التربة كغيمة ضالة، أريد ان أتخلص من جسدي، بإمكاني أن أتخلص من روحي، لكن ماذا أفعل بجسدي حين أموت! لا أريد أن يعثر علي أحد، أريد ان أنطفيء كنجمة، اريد أن أختفي.
تعرف أيها الصديق الذي يملك عيونا كثيرة ولامعة، لا اعرف ماذا تعني لي، ولا اعرف ماذا أعني لك ولا يهمني كل ذلك أبدا، لكنك مختلف، إن بإمكاني أن أبكي أمامك، تعرف ماذا يعني أن يكون بمقدور شخص أن يبكي أمام أحد ما؟
أشعر أنني أعرفك منذ زمن بعيد، سأخبرك ماذا حدث ببساطة، الأمر مثل حلم، لقد حدث ذلك بالفعل، أنا أتذكره جيدا وإن كنت لا تفعل. كنت امشي وأمشي كأنني أتوجه إلى شيء أعرفه، لقد كنت امشي بين العديد من الاشخاص الذين يملكون أوجها من مرايا تعكس بعضها، لكني لم أكن ألتفت نحوهم، لقد سرت نحوك كمن يعرف وجهته، لقد أتيت إليك، أنت الذي تملك وجها حقيقيا، ثم أمسكت بيدك وشددتها بقوة وربما بفظاظة بالنسبة إلى شخص غريب، أمسكت يدك كأنني أمسك يد شخص أعرفه ثم قلت وأنا اتجنب النظر إلى عينيك مباشرة: تعال معي.
لقد قلت ذلك وكأنني اعرف ما أفعل، وقد أتيت معي وقد كنت تعرف أني أعرف ما أفعل، لقد كنت كمن ينتظر شيئا أو شخصا، لقد رأيت ذلك في عينيك، لقد كنت كأنك تبحث عن إنسان في الجوار، كما يبحث أي إنسان في مكان ممتليء بالأشجار وأعمدة الإنارة والكراسي عن إنسان مثله، إنسان يعرف بوجوده، كأن تبحث إمرأة عن قرطها الذي سقط للتو، لقد كنت أعرفك قبل أن أراك، هذا كل شيء.
وداعا يا صديقي المقرب، أيها الإنسان الوحيد المتبقي في هذا العالم الممتليء بالمرايا، ربما ارحل الآن وربما بعد عشر سنوات، لا أعرف. لكنني سأفعلها يوما ما، تأكد من ذلك. أريد أن أرحل عندما اريد لا عندما يريد أي شيء آخر. إكتب لي أحب أن تكتب لي دائما. لتكن صديقي بالمراسلة. وداعا.

٧ ديسمبر ٢٠١٤

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *